التعاليم المحمدية واتصالها بالكون
فُطِر الإنسانُ على خاصتين:
إحداهما: الشعور بقوة غيبية مُهيمنة عليه
وعلى الكون؛ ذات علمٍ وحكمة، وتدبيرٍ وقُدرة، هي مصدر الخلْق والإيجاد، وهي مصدر
التوفيق والهداية.
وكان من حقِّ هذا الشعور
النابع من الفطرة، أن يظلَّ حاضرًا في النفس، مُستتبعًا آثاره ولوازمه من الإيمان
بوحدانية الله، وباستحقاقه وحده العبادة والتقديس، واستجابة أمره ونَهيه دون سواه.
ولكن ما رُكِّب في
الإنسان من قوى الشهوة وحب الانطلاق مع بواعث الهوى العاجل - أنسَاه هذا الشعور،
وحال بينه وبين التذكُّر في كثيرٍ من أوقاته وشؤونه، وصار لا يذكره إلا جوابًا عن
سؤال مفاجئ، أو التماسًا لتفريج كُربة وقَع فيها وأحاطَت به.
وقد سجَّل القرآن في
كثيرٍ من آياته هذه الخاصة للإنسان، وأشار إلى غفلته عنها، وإلى تذكُّره لها
واعترافه بها؛ ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزمر: 38]، ﴿
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
﴾ [العنكبوت: 63]، ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ
الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ
لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 12].
أما الخاصة الثانية للإنسان، فهي إعداده
بقُوى العقل والإدراك للبحث والنظر، في نفسه وفيما يُحيط به من ملكوت السموات
والأرض، فينمو شعوره الفطري، ويَمتلئ قلبه بنور الإيمان، فيَسلك السبيل الواضح الذي
لا غموض فيه والْتِواء؛ سبيل الأمن والاطمئنان، سبيل الحياة الطيِّبة، والسعادة
النفسية الراضية، ويصل في الوقت نفسه ببحْثه ونظره إلى معرفة أسرار هذا الكون، وما
أُودِع فيه من وسائل التقدُّم، ومواد العمارة لهذه الأرض التي جعله الله خليفة
فيها.
ولكن الأوهام التي كانت
تَملكه في أوقات غفلته - وما أكثرها - وضَعت على عقله حجابًا كثيفًا منَعه من
التوجُّه إلى هذا الكون وخوْض غماره، وبذلك ربَط نفسه بالخرافات والأوهام، فسُلِب
فائدةَ العقل والإدراك، وانقاد لِما لا يَسمع ولا يُبصر، وظل يدور حول نفسه، لا
يعرف في الحياة إلا ما يلبِّي غرائزه الحيوانية، وميوله النفسية الفاسدة.
لم ترضَ الحكمة الإلهية
أن يقعَ الإنسان - وقد كرَّمه الله وفضَّله على كثيرٍ من خَلقه - في هذا المصير
الذي أضعف خاصتيه: خاصة الشعور بالإلهِ الخالق، وخاصة البحث والنظر لمعرفة أسرار
الكون، والانتفاع بها في الحياة، فتَعهَّدته بالإرشاد وأنواع الهداية على ألسنة
الرسل الكِرام.
وكانت خاتمة الإرشاد
والهداية هذه التعاليم التي أوحى الله بها إلى رسوله محمد - عليه السلام - خاتم
الأنبياء والمرسلين، أوحى بها إليه، وكلَّفه تبليغَها للناس، ودعوتهم إلى التأمُّل
فيها، والإيمان بها عن طريق النظر والاستدلال في أنفسهم، وفيما يُحيط بهم من أرض
وسماءٍ، وماءٍ وهواء، فأحيا بها في القلوب الشعورَ الفطري بوجود الخالق
ووحدانيَّته، ثم وجَّههم بها إلى البحث عما أودَع في الكون من مواد الحياة، التي
بها تعمر الأرض، والتي يكون العالم بها مظهرًا لرحمة الله بعباده.
وبهذين النوعين من
التعاليم المحمدية التي جاءت للناس على فَترة من الرُّسل، عرَف الإنسان مركزه من
خالقه، فكان له عابدًا مقدِّسًا، وحامدًا شاكرًا، وعرَف مركزه أمام الكون، وكان
أمامه باحثًا مُنقبًا، وبانيًا مُعمِّرًا، وقد تضمَّن القرآنُ هذين النوعين من
التعاليم، ونجد النوع الأول بمناهجه المختلفة ماثلاً في أكثر الآيات، وقد جاء
الثاني كذلك في القرآن بأساليب توحي كلها بالتوجُّه إلى النظر في الكون، والبحث عن
أسراره ومنافعه، ويُغري بالتطلُّع إلى جهات النفع، والحصول عليها؛ فمن أسلوبٍ يُعلن
أن الله ما خلَق الكون على هذا النحو المملوء بالأسرار، إلا ليصل الإنسان إليها
ويَنتفع بها؛ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29]؛ في ظاهرها وباطنها، بأعيانها وبإدراكها
وبدَلالتها.
ومن أسلوب يؤكِّد للإنسان
أن الله سخَّر له هذا الكون، وجعله في متناول عقله، وقَبْضة يده؛ ﴿
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي
السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً
وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20]، ﴿ وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 14]، ﴿
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ
رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ [ص: 36]، ﴿
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ [سبأ: 10]، ﴿
وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾ [سبأ: 12]، ﴿
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ [الحديد: 25].
ومن أسلوب ينبِّه إحساس
الإنسان إلى التطلع إلى مخلوقات خاصة، ذات شأن في الأسرار والمنافع، فيَندفع إلى
تلمُّس ما اشتمَلت عليه، ذلكم الأسلوب هو قسَمُ الله - سبحانه - بهذه المخلوقات؛ ﴿
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا
* وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا *
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا
بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا
* وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
﴾ [الشمس: 1 - 8].
ومع ذلك كله يوجِّه
الأنظار إلى جملة من أصول الثروات، التي تكون بها حياة الأُمم ونَهضتها، فيذكر
الثروة الحيوانية والنباتية والجبَلية، ويمتنُّ على الإنسان بها، ويُغريه إلى
تحصيلها والانتفاع بها.
بهذا يتَّضح أن التعاليمَ
المحمدية الماثلة في كتاب الله، لم تَقتصر في مهمتها للإنسان على إحياء شعوره
الفطري بالخالق وعبادته، وإنما أوحَت إليه في الجانب الإنساني أيضًا بما يُحقِّق
قيمتَه في الحياة، ويقف به في مركزه أمام الكون.
وبذلك تطابَق كتاب الوحي
مع كتاب الكون، وصدَّق كلٌّ منهما الآخر، فامتزَجت الروحية بالمادية، وكان الوسط
الذي لا إفراط فيه ولا تفريطَ.
جدَّدت التعاليم عهْدَ
الولاء بين الإنسان وخالقه، وردَّته إلى فِطرته، ثم ربَطت بينه وبين الكون،
وهيَّأته بهذا الربط لحياة قوية شريفة، وبذلك كانت الدنيا من الدين، وكان الدين من
الدنيا.
فجدير بأرباب البحث في
الكائنات، الذين نظروا إليها كوَحدة منفصلة عن جانب الشعور الفطري بالخالق، جديرٌ
بهم أن ينظروا إلى أُمية محمد وبيئة الجاهلية التي نشأ فيها، وبين هذه التعاليم
المتصلة بالكائنات التي يَعرفونها.
جدير بهم أن ينظروا كيف
تجري هذه التعاليم على لسان مثل محمدٍ في أُميته وبيئته، وفي زمنه كله، جدير بهم أن
ينظروا إلى هذا نظرة إنسانية مطلقة مجرَّدة من قيود العصبية الغاشمة، وفي اعتقادي
أنهم إذا نظروا هذه النظرة، لضاقت شُقَّة الخلاف بين بني الإسلام، وآمَن الجميع
بأنه: ﴿ وَحْيٌ يُوحَى
* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ [النجم: 4 - 5].
وتلاقت بذلك نتائجُ البحث
والنظر بمبادئ الوحي والتعاليم، وأصبح الناس جميعًا بنعمة الله إخوانًا؛ يخضعون
لربٍّ واحد، وإرشادٍ واحد، أُمة واحدة في حياة واحدة.
تلك دعوتي - وهي دعوة
الحق - أُوجِّهها إلى أرباب القلوب الحيَّة، والعقول الناضجة، الحريصة على خير
الإنسانية وسعادتها؛ ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].
أضف تعليق:
0 comments: