أسس جهاد النبي عليه الصلاة والسلام في القرآن الكريم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفِره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فسنتحدَّث عن بعض الأسس التي قام عليها الجهادُ النبوي من خلال التأمل في آيات القرآن الكريم، والأسس كالتالي:
1- التوكل على الله.
2- التحريض على القتال.
3- الإعداد.
4- الغِلظة في جهاد الكفار والمنافقين.
5- القتال من غير تَعدٍّ.
فلنقِف عند هذه الأسس، ونُبيِّن حقيقتها، ولنتأملها لتكون منهجًا لنا في حياتنا الجهادية.
فنقول:
يسعى القرآن الكريم في هذه الآيات إلى الترغيبِ في الجهاد بإيقاظ مشاعر المسلمين نحو التطلُّع إلى ما هو خير لهم وأبقى عند الله - عز وجل - ويدفعهم إلى عُلوِّ الهمَّة فيه، وذلك ببيع الحياة الدنيا وشراء الآخرة، ويَعِدهم على ذلك إحدى الحُسْنيين: النصر أو الشهادة.
يقول تعالى: ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 74، 76].
يستجيش القرآن الكريم النفوس في استفهام إنكاري فيه حثٌّ وإغراء على الجهاد؛ لإنقاذ إخوة لهم في الدين ضعفاء، يَلقَون الذلَّ والتعذيب على أيدي أعدائهم، ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ﴾ [النساء: 75]، وينقُل لنا القرآن دعاء الضعفاء وتَضرُّعهم إلى الله أن يَمُنَّ عليهم بالنصر والتأييد.
ومن بين المغريات التي نرى القرآن اعتمَد عليها لترغيب المؤمنين في الجهاد: إثارة بواعثِ الرغبة في نفوسهم من خلال عقْد صفقةٍ رابحةٍ مع الله، فالمجاهد يبيع نفسه، ويُضحِّي بالحياة الدنيا مُقابِل ما أعدَّ الله لهم في الآخرة من النعيم والرِّضوان في الجنة.
أو إثارة النخوة والشهامة لإنقاذ طائفة ضعيفة من المؤمنين تَلقى الضيم والذلَّ والأذى الشديد على أيدي قرية ظالم أهلُها، فهؤلاء الضعفاء أجدرُ الناس لأن يَهُبَّ من لديهم نَخوة لإنقاذهم من أيدي ظالميهم[1].
والخطاب في هذه الآيات الكريمات للمؤمنين ترغيب لهم في الجهاد وحثّ عليه، وفيه تعريض بالمنافقين الذين يثبِّطون المؤمنين عن الجهاد في سبيل الله، والفاء في قوله ﴿ فَلْيُقَاتِلْ ﴾ تكون للتعقيب؛ أي: ينبغي بعدما صدَر منهم من النفاق ترْكه وتَدارُك ما فات من الجهاد بعد، وإن كان بمعنى (يبيعون) فالخطاب للمؤمنين الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة، أُمِروا بالثبات على القتال وعدم الالتفات إلى تثبيطِ المنافقين، والفاء جواب شرط مقدَّر، أي: إن أبطأ هؤلاء عن القتال، فليُقاتل المخلِصون الباذلون أنفسهم في طلَبِ الآخرة[2].
يقول الرازي: "وهذا يدل على أن المجاهد لا بد وأن يُوطِّن نفسه على أنه لا بد من أحد أمرين، إما أن يقتُله العدو، وإما أن يَغلِب العدو ويَقهَره، فإنه إذا عزَم على ذلك لم يَفِر من الخَصم، ولم يُحجِم عن المُحارَبة، فأما إذا دخَل لا على هذا العزم، فما أسرع ما يقع في الفِرار، فهذا معنى ما ذكره الله تعالى من التقسيم في قوله: ﴿ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ ﴾ [النساء: 74][3].
وفي آية أخرى تتجلَّى فيها مشقة الجهاد وشِدّته على المسلمين؛ حيث أخبر الله أنه مكروه للنفوس؛ لما فيه من التعب والمشقة وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالِف؛ يقول تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
فالإسلام يحسب حساب الفطرة؛ فلا يُنكِر مشقَّة هذه الفريضة، ولا يُهوِّن من أمرها، ولا يُنكِر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثِقَلها.
فالإسلام لا يُماري في الفطرة، ولا يُصادِمها، ولا يُحرِّم عليها المشاعر الفطريَّة التي ليس إلى إنكارها من سبيل، ولكنه يُعالِج الأمر من جانب آخر، ويُسلِّط عليه نورًا جديدًا، إنه يُقرِّر أن من الفرائض ما هو شاقٌّ مرير كريه المَذاق، ولكن وراءه حكمة تهوِّن مشقته، وتُسيغ مرارته، وتُحقِّق به خيرًا مخبوءًا قد لا يراه النظر الإنساني القصير، هكذا يواجِه الإسلام الفطرةَ، لا منكِرًا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية، ولا مريدًا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف، ولكن مربِّيًا لها على الطاعة، ومُفسِحًا لها في الرجاء؛ لتبذُل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير، ولترتفع على ذاتها متطوِّعة لا مُجبَرة، ولتُحِسَّ بالعطفِ الإلهي الذي يعرف مواضع ضَعْفها، ويعترف بمشقة ما كُتِب عليها، ويَعذِرها ويُقدِّرها[4].
ويقول ابن عاشور مبيّنًا مشقَّة الجهاد وحاجته إلى العزم؛ لكي يدفع المسلم عن نفسه ودينه المذلَّة والهوان: "فالقتال كريه للنفوس؛ لأنه يَحول بين المقاتِل وبين طمأنينته ولذاته ونومه وطعامه وأهله وبيته، ويلجئ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه، ويُعرِّضه لخطرِ الهلاك أو ألم الجراح، ولكن فيه دفْع المذلَّة الحاصلة من غلبةِ الرجال واستضعافهم، وفي الحديث: ((لا تَمنَّوا لقاءَ العدوِّ فإذا لقِيتُموه فاصبِروا)) [5]، وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان ترْكها يُفضي إلى ضررٍ عظيم [6].
إن الجهاد في سبيل الله أمر يحتاج إلى همَّة عالية وعزمٍ قوي؛ وذلك لأنه شاقٌّ على النفس، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أعلى الناس همَّة في الجهاد والمُضيِّ فيه والإعداد له، وما ذلك إلا إعلاءً لكلمة الله - عز وجل - واستجابة لأمره تعالى، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 159]، وذلك بعد مشاورة أصحابه، يقول الطبري: "والمعنى: إذا تبيَّن لك الأمر، وعزَمت على جهاد عدوك، فامضِ على ما أمرتَ به على خلاف مَن خالَفَك وموافَقَة مَن وافَقَك"[7].
وإن معركة أحد لتُبيِّن قوة عزمه - صلى الله عليه وسلم - وعُلوِّ همته في المضي إلى القتال؛ لما جمعت قريش جموعها لقتال المسلمين استشار - صلى الله عليه وسلم - صحابته - رضي الله عنهم - فقال لهم: ((لو أنا أَقمنا بالمدينة، فإن دخلوا علينا فيها قاتلناهم))، فقالوا: يا رسول الله، والله ما دُخِل علينا فيها في الجاهلية، فكيف يُدخَل علينا فيها في الإسلام؟ قال عفان في حديثه: فقال: "شأنكم إذًا، فلبِس لأمَتَه، قال: فقالت الأنصار: رددنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيه، فجاؤوا فقالوا: يا نبي الله، شأنك إذًا، فقال: إنه ليس لنبي إذا لبِس لأْمَتَه أن يضعها حتى يُقاتِل))[8].
ويُبيِّن عزمه - صلى الله عليه وسلم - في جهاد الأعداء من خلال تحريض أصحابه على الجهاد: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ [الأنفال: 65]، والتحريض: المُبالَغة في الحثِّ على الأمر[9]، حثَّهم وأنهَضَهم إليه بكلِّ ما يُقوِّي عزائمهم ويُنشِّط همَمَهم من الترغيب في الجهاد، ومقارعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك.
ولا شكَّ أن مَن يَحُض المؤمنين هو أقواهم عزمًا وأعلاهم همة في تنفيذ هذا الأمر، ويظهر ذلك في قوله تعالى: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 84]، يقول الرازي: "دلَّتِ الآية على أن الله تعالى أمره بالجهاد ولو وحده"[10].
فلو تَثبَّط الأصحاب عن القتال، فإنه لا يضرُّك مخالفتُهم وتَقاعدُهم، فتقدَّم أنت إلى الجهاد، وما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتباطأ عن أمرِ ربه، وهذا من تمام عزْمه وقوة همته، فهو القائل: ((فوالذي نفسي بيده لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تَنفرِد سالفتي، وليُنفِذن الله أمرَه))[11].
قال تعالى: ﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ﴾ [النساء: 84]، أي: بتحريضك إياهم على القتال تَنبِعث هممُهم على مناجزة الأعداء، ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله ومقاومتهم ومصابرتهم، والله قادر على الكافرين في الدنيا والآخرة"[12].
فالنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - يَحُث المؤمنين ويستنهِضهم إليه بكلِّ ما يُقوِّي عزائمهم ويُنشِّط هممهم، من الترغيب في الجهاد ومقارعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك، وذكر فضائل الشجاعة والصبر، وما يترتَّب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة، وذِكر مضارَّ الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقِصة للدين والمروءة [13].
وأعظم الأمور التي يَجدُر بنا الإشارة إليها هنا مسألة الإعداد[14]؛ لأن الإعداد الجيد دليل على العزم على الجهاد، فالإعداد الجيد أحد أهم الركائز التي يعتمد عليها الجهاد، لذلك إذا أُعِدَّ الجندي إعدادًا جيدًا من جميع الجوانب المطلوبة، وكذلك الجيش فإنه لن يُهزَم بإذن الله تعالى.
وقد فرَض رب العزة في الذكر الحكيم الإعداد فقال: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60].
قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية: "والإعداد: التهيئة والإحضار، ودخل في ﴿ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العُدَّة" [15].
ولذلك يعتبر الإعداد ضرورة من الضروريات للجهاد، فلا بد أن نجعل همَّتنا فيه، فهو كالوضوء بالنسبة للصلاة، فكما أنه لا صلاة بلا وضوء كذلك لا جهاد بلا إعداد، وطول الإعداد أو التركيز على الإعداد علامة من علامات العزم على استمرارِ الجهاد، يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ﴾ [التوبة: 46].
فذمَّهم على ترْك الاستعداد قبل لقاء العدو، إذًا: العدة علامة التصميم والعزم على الجهاد، فالإعداد: القوة، والإعداد: الرمي، والإعداد: تربية الخيول، والإعداد: الإعداد الرُّوحي والفكري؛ لأنك عندما تتعلَّم القرآن الكريم؛ فأنت تُعِدّ نفسك لإفادة المسلمين، وعندما تُعِد رُوحك بالقيام والصيام؛ فأنت تعد نفسك للاستمرار الطويل على هذا الدرب المرير؛ لأن الجهاد صعب وثقيل، ما رأيتُ أصعبَ ولا أثقل من الجهاد.
وقد كان الصحابة يتغنون بالقوة والإعداد ويتسابقون في مَيدان العزة والجهاد، وقد كان لعروة البارقي - رضي الله عنه - سبعون فرسًا مُعَدَّة للجهاد، ويُعتَبر حديث: ((ألا إن القوة الرمي))[16]، من دلائل النبوة ومعجزاتها، فإن معظم الحروبِ الحديثة قائمة على الرماية من الرصاصة إلى القذيفة إلى الصاروخ، كلها رماية، بينما كانت الحروب قديمًا وفي عهده - صلى الله عليه وسلم - تعتمد بثِقَلها على السيوف والرّماح والخيل وأما استعمال السهام فكان دون ذلك[17].
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73]، وفي تفسير هذه الآية كلام جميل للمفسِّرين، منه ما ذكره ابن جرير أن في الآية ثلاثة أقوال:
الأول: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "يُجاهِدهم بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليَكْفَهِرَّ في وجهه".
الثاني: عن الحسن وقتادة: أن المراد جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين بإقامة حدودِ الله عليهم.
الثالث: عن ابن عباس يقول: جاهِد الكفار بالسيف، واغلُظ على المنافقين بالكلام.
ثم اختار ابن جرير قولَ ابن مسعود حيث يقول: "وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابن مسعود من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين، بنحو الذي أمره به من جهاد المشركين" [18].
ويقول سيد قطب في تفسير هذه الآية: "لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لايَنَ المنافقين كثيرًا، وأغضَّ عنهم كثيرًا وصَفَح، فها هو ذا يبلُغ الحِلم غايته، وتبلغ السماحة أجلَها، ويأمره ربه أن يبدأ معهم خُطة جديدة، ويُلحِقهم بالكافرين في النص، ويُكلِّفه جهاد هؤلاء وهؤلاء جهادًا عنيفًا غليظًا لا رحمة فيه ولا هوادة، إن للين مواضِعه وللشدة مواضعها، فإذا انتهى أمدُ اللين فلتكن الشدة، وإذا انقضى عهد المصابرة فليكن الحسم القاطع، وللحركة مقتضياتها، وللمنهج مراحله، واللينُ في بعض الأحيانِ قد يؤذي، والمُطاولة قد تَضرُّ" [19].
فكل هذا يؤكِّد لنا عُلوَّ همَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف لجأ إلى الشدة والقوة في معاملة المنافقين إذا دعتِ الحاجة إليها؛ لأن الضمير في قوله تعالى: ﴿ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73]، يعود على الفريقين: الكفار والمنافقين، ومعناه: جاهِدْهم بكل ما تستطيع مجاهدتَهم به، بما تقتضيه الحال، واشدُد عليهم في هذه المجاهدة[20].
لقد كانت همة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أداء هذه الفريضة أداء أصحاب الهِمَم العالية، والشجاعة الإقدام والثبات على المبدأ، واحتقار الموت في سبيل العقيدة، فهِمَّته قد بلغت الذِّروة في هذا الأمر، فكان المجاهد الأعظم في التاريخ، حارَب يوم بدر ويوم أحد، ويوم الخندق، ويوم حنين، وفي كثيرٍ من المواقع التي يُعاني فيها من القلة من المؤمنين ومن ضَعْف الشوكة كان يقف - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة الفتن والحوادث الجِسام بإيمان راسخٍ، وهمَّة عالية؛ ليُكافِح أعداء الملة والدين، بصبر ومصابرة، وهمة وعزمة صادقة.
فعلينا أن نقتدي بأعظم صاحب همة عالية، رسولنا - صلى الله عليه وسلم - وخاصة ونحن في هذه الأيام نعيش في وقت أظهَر الكفار والمنافقون حقْدَهم وبغْضَهم للإسلام، فلنُجاهِد كما أمرنا القرآن الكريم حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
ومما يَظهر لنا علو همة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعزمه الصادق في جهاد الأعداء، التحريض على الأمر بالقتال؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73].
يقول السعدي في تفسير هذه الآية: "أي: حُثَّهم وأنهِضْهم إليه بكل ما يُقوِّي عزائمهم ويُنشِّط هممَهم، من الترغيب في الجهاد ومقارَعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك، وذِكْر فضائل الشجاعة والصبر، وما يترتَّب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة، وذِكْر مضارّ الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقِصة للدين والمروءة، وأن الشجاعة بالمؤمنين أولى من غيرهم" [21].
وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].
وهذه الآية - كما ذكَر ابن كثير - هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقاتِل مَن قاتَلَه، ويَكُف عمن كفَّ عنه، حتى نزلت سورة براءة، وفي هذه الآية تهييج وإغراء بالأعداء الذين هدفهم قتال الإسلام وأهله، أي كما يُقاتِلونكم أنتم، وذلك كما قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]؛ أي: لتكون همَّتكم مُنبَعِثة على قِتالهم كما هي همتهم منبعِثة على قتالكم، وإخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قِصاصًا"[22].
وفي الآية تصريح من الله - عز وجل - بعدم الاعتداء، بل صرَّح بعدم حبِّه للمعتدين.
وأخيرًا:
عند إحياء الجهاد من الأمَّة المسلمة، فإن أفرادها يكونون قد بلَغوا غايةَ السعادة في الدنيا وكذلك في الآخرة، أما في الدنيا فبما يَناله المجاهدون عند السلامة ومن وراءهم من النصر والعزِّ والثراء والأمن والرفاهية، وأما عند الممات فيبلُغون غايةَ السعادة، كذلك من الدرجات والأمر العظيم، والخِصال الفريدة التي لم يكتبها الله إلا للمجاهدين في سبيله، الذين قُتِلوا وهم يُنافِحون عن دينه، ويُعلون كلمته، وهذا الحال من السعادة العظمى، هو ما تكفَّل به الله - سبحانه وتعالى - لمن جاهَد في سبيله.
تلكم هي الآثار والنتائج التمكينيَّة التي رتَّبها الله على حصول الجِهاد والقيام به في كتابه الكريم، وقد تكفَّل - سبحانه وتعالى - جملة بتحقُّق النصر من عنده، والفتح القريب والبشائر التي لا تنتهي حين يقوم أهلُ الإيمان بالله ورسوله بالجهاد حقّ الجهاد في سبيله.
[1] انظر: من بلاغة القرآن ص 314.
[2] انظر: رُوح البيان 2/236.
[3] مفاتيح الغيب 10/145.
[4] انظر: في ظلال القرآن 1/223.
[5] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب لا تمنوا لقاء العدو (4/63)، حديث رقم (3024)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد، باب كراهة تمني لقاء العدو، (3/1362) حديث (1742) من حديث عبدالله بن أبي أوفى - رضي الله عنه.
[6] التحرير والتنوير 2/320.
[7] جامع البيان 4/153.
[8] أخرجه أحمد 3/351، قال الهيثمي في المجمع 6/107: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة 3/91: "إسناده ورجاله ثقات على شرط مسلم".
[9] انظر: الكشاف 2/223.
[10] مفاتيح الغيب 5/307.
[11] أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب حديث (2731) 6/48.
[12] تفسير القرآن العظيم 1/532.
[13] انظر: تيسير الكريم الرحمن 1/325.
[14] الإعداد هو: (تهيئة الشيء للمستقبل) ينظر: البحر المحيط 4/511.
[15] التحرير والتنوير 10/55.
[16] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، حديث رقم (1917) 3/1522 من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه.
[17] انظر: أحكام القرآن؛ للجصاص 4/253.
[18] تفسير الطبري - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء 11، الصفحة 567.
[19] في ظلال القرآن 3/1677.
[20] انظر: التفسير الوسيط لسيد طنطاوي 6/232.
[21] تيسير الكريم الرحمن ص (325- 326).
أضف تعليق:
0 comments: