نعمة الأمن في الإسلام
الحمد لله رب العالمين .. من علينا بنعمة الأمن في القرآن الكريم فقال تعالي }
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ
مِنْ خَوْفٍ (4) { قريش . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له … جعل الأمن
مقرونًا بالإيمان ..فقال تعالي } الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82){ الأنعام . وأشهد أن
محمداً رسول الله صلي الله عليه وسلم … الهادي البشير, المبعوث رحمة للعالمين ,
والذي ما ترك من خير إلا ودل الأمة عليه وأمرهم بإتباعه ،وما ترك من شر إلا وحذر
الأمة منه ونهاهم عن اقترافه ….أشار إلى أن الدنيا تجتمع للعبد في ثلاثة أشياء …منها
نعمة الأمن، فإن حاز هذه الثلاث فقد حاز الدنيا بما فيها، فقال صلى الله عليه وسلم}من
أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا
بحذافيرها{ (حسنه الألباني في صحيح الجامع ). فاللهم صل علي سيدنا محمد, وعلى آله
وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .. أما بعد : فيا أيها المؤمنـــــــــــــــــــون
.
إن نعمة الأمن نعمة لا تعادلها نعمة بعد نعمة الإسلام، فلا أمان لأحد إلا بالإسلام،
ولا راحة لأحد إلا بطاعة الرحمن، ولا ذهاب للخوف والحزن إلا بالتمسك بطاعة الكريم
المنان. ولقد أراد أعداء الإسلام منذ زمن بعيد زعزعة أمن المسلمين في كل مجالات
حياتهم ، زعزعة أمنهم الفكري والعقائدي والسياسي والإقتصادي والإجتماعي ، وأمنهم
الحياتي ، ولأنهم يعلمون أن الإنسان المسلم لا يستطيع أن يحقق غايته المنشودة إلا
في ظل جو من الأمن والطمأنينة ، فقاموا بنشر الثقافات الغربية والدعوات الهدامة لكي
يفرقوا كلمة المسلمين والقضاء علي هويتهم ونهب ثرواتهم وخيراتهم. ولابد أن نعلم
أننا لا نستطيع أن نقوم بدورنا نحو الدين والوطن إذا فقدنا نعمة الأمن والإستقرار ،
لذلك كان موضوعنا (نعمة الأمن في الإسلام) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية
التالية.
1ـ مفهوم الأمن.
2ـ استقرار الأوطان ضرورة شرعية ووطنية .
3ـ نظرة الإسلام الشمولية للأمن.
4ـ أسباب تحقق الأمن.
5ـ أثر تحقق الأمن علي المجتمع
العنصر الأول : مفهوم الأمن :ـ
الأمن ضد الخوف . والأَمَنَةُ ، بالتحريك: الأمن , ومنه قوله تعالى }أَمَنَةً نُعَاسًا
يَغْشَىٰ (154){ آل عمران. واستأمن إليه , أي دخل في أمانه . وقوله تعالى }وَهَٰذَا
الْبَلَدِ الْأَمِينِ(3){التين. والأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف، وهي نعمة لا
تقدر بكنوز الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم}من بات آمنا في سربه، معافى
في بدنه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها{ (ابن ماجة وحسنه الألباني).
ومنه قوله تعالى }وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4){ من سورة قريش. ومنه الإيمان
والأمانة , وضده الخوف . ووقع من أسمائه الحسنى المؤمن في قوله تعالى }هُوَ اللَّهُ
الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
(23){ الحشر. ومعناه أنه هو المعطي الأمان لعباده المؤمنين حين يؤمنهم من العذاب في
الدنيا والآخرة . وقد منح الله سبحانه وتعالى هذا الاسم لعباده الذين صدّقوا به
وبرسله وكتبه فسماهم (المؤمنين ). والأمن مشتق من الإيمان والأمانة، وهما مترابطان،
قال الله تعالى: }الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون(82)
{ (الأنعام)
العنصر الثاني : استقرار الأوطان ضرورة شرعية ووطنية :ـ
فإن نعمة الأمن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، ومطلب ضروري من
ضروريات الإنسان، ولذلك كان من مقاصد الشرائع السماوية المحافظة على الضروريات
الخمس وهي: حفظ النفس، والدين، والعقل، والعرض، والمال، فإذا حفظ للإنسان هذه
الضروريات فقد حصل على أسمى هدف، وأعظم غاية يرجوها الإنسان في هذه الحياة الدنيا
وهو الأمن بجميع صوره، ومن فضل الله سبحانه أن هيأ لنا حفظ أمننا، وجعل ذلك مرهونًا
ومرتبطًا بالإيمان، وجعل بينهما ارتباطًا قويًا وتلازمًا ضروريًا فلا أمن بدون
تطبيق الإسلام، ولا يتحقق تمام الإسلام وكماله، والعمل بشعائره، وإقامة حدوده إلا
بالأمن، ولا تقوم مصالح العباد إلا بالأمن. ومن أجل استتباب الأمن في المجتمعات
جاءت الشريعة الغراء بالعقوبات الصارمة، وحفظت للأمة في قضاياها ما يتعلق بالحق
العام والحق الخاص. بل إن من المسلّم في الشريعة، قطع أبواب التهاون في تطبيقها أياً
كان هذا التهاون، سواء كان في تنشيط الوسطاء في إلغائها، أو في الاستحياء من الوقوع
في وصمة نقد المجتمعات المتحضرة. فحفظاً للأمن والأمان؛ غضب النبي على من شفع في حد
من حدود الله بعدما بلغ السلطان، وأكد على ذلك بقوله}وأيم الله، لو أن فاطمة بنت
محمد سرقت لقطعت يدها{ رواه البخاري ومسلم. فالأمن هو روح الحياة وقلبها النابض
ولذلك دعا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما شيد بيت الله الحرام أن يكون آمنا،
قال الله تعالى }رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ
مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ{ ، فقدم طلب الأمن على طلب
الرزق لأن الأمن ضرورة ،ولا يتلذذ الناس بالرزق مع وجود الخوف بل لا يحصل الرزق مع
وجود الخوف . وقد استجاب الله دعاءه فقال الله تعالى}فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ
(3)الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4){ (قريش).. فالأمن
ضرورة لكل مجتمع لأن به تتم المصالح ، وتستقيم الحياة، وتستتم وبفقده تضيع الحقوق
وتضيع المصالح ويحصل القلق والخوف ، وتحصل الفوضى ويتسلط الظلمة على الناس ،ويحصل
السلب والنهب ،وتسفك الدماء ،وتنتهك الأعراض فلا يأمن الإنسان على نفسه وهو في بيته
ولا يأمن على أهله وحرمته ،ولا يأمن على ماله ،ولا يأمن وهو في الشارع ،ولا يأمن
وهو في المسجد ولا يأمن وهو في مكتبه ،ولا يأمن في أي مكان إذا زالت نعمة الأمن عن
المجتمع ، إلى غير ذلك من مظاهر فقد الأمن للمجتمع. بل هو مطلب الشعوب كافة بلا
استثناء، ويشتد الأمر بخاصة في المجتمعات المسلمة، التي إذا آمنت أمنت، وإذا أمنت
نمت؛ فانبثق عنها أمن وإيمان، إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضمانات واقعية ضد
ما يعكر الصفو في أجواء الحياة اليومية. وبضعف الأمن وانحلاله؛ تظهر آثار خبث
الشيطان، وألاعيبه هو وجنده من الجن والإنس، وإقعاده بكل صراط، يوعد بالأغرار من
البشر، ويستخفهم فيطيعونه؛ فيبين حذقه وإغواؤه، محققاً توعده بقوله } لاقْعُدَنَّ
لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ(16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ (17){ [الأعراف]. فمن البديهيات التي لا يختلف عليها
العقلاء أنه لا يمكن أن تقوم حياة إنسانية كريمة إلا في ظلال أمنٍ وافرٍ، يطمئن
الإنسان معه على نفسه وأسرته ومعاشه، ويتمكَّن في ظله من توظيف ملكاته وإطلاق
قدراته للبناء والإبداع .
ولأهميته قرن سيدنا إبراهيم الدعاء بتحقيق الأمن مع الدعاء؛ بنفي الشرك وتحقيق
التوحيد}وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) 35) {(إبراهيم). وقرن النبي صلى الله عليه
وسلم الإسلام بالأمن، فقال صلى الله عليه وسلم: }الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ
مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ{ (الترمذي وصححه). والأمن أهم سبب في الازدهار الاقتصادي قال تعالى}وَقَالُوا
إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ
لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ
لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57){ (القصص). وقال تعالى
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ
حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. ويقول جلَّ وعلا {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ
وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
[الأنفال: 26]. ويحكي القرآن الكريم عن دولة سبأ أن الأمنُ كان أحدَ أسباب الازدهار
الاقتصادي فقال تعالي }وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا
فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ
وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18){ (سبأ). وقد دلَّت سائر أحداث التاريخ البعيد والقريب
على أن الحضارة لا تزدهر، وأن الأمم لا ترتقي ولا تتقدم إلا في ظلال الاستقرار الذي
ينشأ عن استتباب الأمن للأفراد وللجماعات وللأمم.
العنصر الثالث : نظرة الإسلام الشمولية للأمن :ـ
إن مفهوم الأمن مفهوم واسع , وليس مقتصرا على مفهوم حماية المجتمع من السرقة أو
النهب أو القتل ونحوه , بل الأمن مفهوم أعم من ذلك كله , وأول وأعظم مفهوم للأمن ،
الأمن الفكري :
الأمن الفكري :ـ وهو الحفاظ على العقيدة السليمة الصحيحة الخالية من الزيغ والشبهات
والتحريفات , والتي تؤدي إلى ارتباط المسلم بربه ارتباطا وثيقا , هذا هو أول
الواجبات الأمنية التي يتحقق بها الوازع الديني المانع من كل الممارسات الخاطئة في
تطبيق الشريعة الإسلامية وتعاليمها . إن الأمن على العقول لا يقل خطرا عن أمن
الأرواح والممتلكات , فكما أن للأموال والممتلكات لصوصا يهتبلون الفرص لسرقتها ،
فللعقول لصوصا محترفين خبثاء مخططين , يتربصون بالمسلمين الفرص لسرقة عقول شبابهم
وبناتهم , ومن ثم دفعهم إلى وجهة التغريب والبعد عن دينهم وتراثهم وحضارتهم .
فالأمن الفكري أصل تقوم عليه مرتكزات حياة المجتمع ومسيرته , فيجب على الأمة أن لا
تنزلق في انحدارات التغريب والتبعية لدعوات هدامة باطلة .
يلاحظ صيانة الإسلام للأمن الفكري داخل المجتمع المسلم عن طريق، توحيد مصدر التلقي
في العقائد والعبادات والقضايا الكبرى في حياة المسلمين، لا نعتمد في ثقافتنا علي
ما يأتي إلينا من الخارج وعندنا المصدر الأساسي وهو القرآن الكريم والسنة المطهرة .
نجد أن النبي صلي الله عليه وسلم غضب على سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ، وما
أدراكم ما عمرابن الخطاب ؟ عندما رآه يقرأ في قطعة من التوراة قال} أفي شك أنت يا
ابن الخطاب ؟! والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي{. فهل يجوز لنا إذن أن
نأذن لأبنائنا وبناتنا، أن يتابعوا الشبكة العنكبوتية الانترنت في قراءة كتب السحر
وكتب الكهانة، وكتب الإلحاد والزندقة والفساد والانحلال ؟ وأن يتبعوا الكاتب
الفلاني والأديب الفلاني ويسلموا عقولهم لهم ؟والله تعالي يقول }وَإِنْ تُطِعْ
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (116){[ الأنعام].
فلا يجوز لنا أن نترك أبنائنا فريسة لهذه الدعوات الهدامة ،الفاسدة المفسدة.
الأمن الإجتماعي :ـ
لقدعظم الاسلام أمر الأمن الإجتماعي، ودعا الى المحافظة عليه بين الناس جميعا
افرادا وجماعات، فعلى مستوى الفرد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يكون الجار
سببا في فزع جاره وتخويفه، بل ازداد الأمر تحذيرا عندما نفى النبي صلى الله عليه
وسلم الإيمان عمن لا يجد جاره الأمن في جواره، فعن ابن شريح رضي الله عنه قال رسول
الله صلي الله عليه وسلم }والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن»، قالوا: من
يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» (البخاري). ويعيش المسلم بالأمن
الإجتماعي في عفو وصفح وتسامح وإحسان مع الآخرين، قال تعالى }خذ العفو وأمر بالعرف
وأعرض عن الجاهلين (199) { (الأعراف). الأمن الإقتصادي :ـ
الأمن الإقتصادي المتمثِّل في عدالة توزيع الثروة حتي لا يكون هناك غني متخم بالشبع
وفقير مدقع لا يجد ما يسد به رمقه ، وما يستر به جسده فقال تعالي } كَيْ لَا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ۚ(7) {الحشر.
الأمن السياسي :ـ
المتمثل في تحقيق العدالة السياسية ،وبه يحظى الجميع المسلم وغير المسلم بالأمن،
فيتعامل معه المسلمون بالبر والقسط مادام لا يقاتلهم ولا يؤذيهم، قال تعالى}لا
ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم
وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8){ (الممتحنة). وهذه القصة خير شاهد علي ما
نقول اليهودي الذي سرق درع سيدنا عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه وهو خليفة، ولما
رأى سيدنا عليّ الدرع عند اليهودي قال: هذا درعي ، فقال اليهودي: بل هو درعي!!فاحتكما
إلي القاضي شريح ،فمَثُلَ الخليفة مع اليهودي أمام قاضي المسلمين، وقف في ساحة
القضاء أمام شريح رحمه الله رحمة واسعة- ولما دخل عليّ مع اليهودي أمام شريح فنادي
شريح على عليّ قائلاً: يا أبا الحسن، فغضب عليّ فظن شريح سوءً قال: ما الذي أغضبك؟
فقال عليّ: يا شريح أما وقد كنيتني أي ناديت عليَّ بكنيتي- وقلت يا أبا الحسن، فلقد
كان من واجبك أن تُكَنِّيَ اليهودي هو الآخر. ما هذا الخلق؟! وما هذا الدين العظيم؟!
وَمَثُلَ عليٌّ واليهودي أمام شريح، فنظر شريح إلى عليّ وقال: يا عليّ ما قضيتك؟
قال: الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب، فنظر شريح إلى اليهودي فقال: ما تقول في كلام
عليّ؟ فقال اليهودي: الدرع درعي وليس أمير المؤمنين عندي بكاذب!! فنظر شريح إلى عليّ
وقال: هل عندك بَيِّنة؟ قال: لا، وكان شريح رائعًا بقدر ما كان أمير المؤمنين عظيمًا،
وقضى شريح بالدرع لليهودي، وأخذ اليهودي الدرع وخرج ومضى غير قليل. ثم عاد مرة أخرى
ليقف أمام عليّ وأمام القاضي وهو يقول: ما هذا الدين وما أروعه؟! أمير المؤمنين يقف
أمامي خصمًا أمام قاضي من قضاة المسلمين، ويحكم القاضي بالدرع لي، والله … ليست هذه
أخلاق بشر، إنما هي أخلاق أنبياء، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول
الله، فَسَعِدَ عليّ، وقال اليهودي: يا أمير المؤمنين الدرع درعك، فقد سقطت منك
فأخذتها، فنظر عليّ مبتسمًا وقال: أما وقد شرح الله صدرك للإسلام فالدرع مني هدية
لك، هذا الأمن والأمان لمن؟! لأبناء يهود تحت ظلال الإسلام الوارفة. نجد أن أنواع
الأمن مرتبطة بعضها ببعض ، فلا أمنَ اجتماعيًّا من غير أمن اقتصادي وأمن سياسي،
والعكس بالعكس، فالأمن الاقتصادي المتمثِّل في عدالة توزيع الثروة، والأمن السياسي
المتمثل في تحقيق العدالة السياسية لا يتمَّان بغير توافق اجتماعي.. وهكذا، فلا رأي
لخائف، ولا عقل لمستعبَد مُكرَه؛ لأنه حين يشيع الاستبداد، فإنه يقضي على القدرات
العقلية للأمة، ويفلُّ إرادتها وعزمها، وحتى لو فكرت فالخائف إذا فكَّر يكون تفكيره
مرتعشًا، ورأيه مشوشًا. كما يؤدي الاستبداد إلى اهتزاز العلاقات الاجتماعية بين
أفراد المجتمع، فضلاً عن إعطاء الفرصة للمتملِّقين والمداهنين في التسلق والسيطرة
على جل أجهزة الدولة.
العنصر الرابع :أسباب تحقق الأمن :ـ
في ظلال الأمن تُعمَر المساجدُ وتُقام الصلوات، وتُحفَظ الأعراض والأموال، وتُؤمَّن
السبل، وتُطَبَّق شريعة الله، وتُنشَر الدعوة إلى الخير، في رحاب الأمن يسود
الاطمئنان، ويعمُّ الخير والرخاء، وتستقيم حياة بني الإنسان، ويَسُود العلم وتستمرُّ
عجلة التنمية، ويزدهر الإنتاج، ولو انفرط عقد الأمن ساعةً لرأيت كيف تعمُّ الفوضى،
وتتعطَّل المصالح، ويكثر الهرج، ويحكم اللصوص وقطَّاع الطرق، وتأمَّل فيمَن حولك من
البلاد ستجد الواقع ناطقًا وعلى هذه الحقيقة شاهدًا. إن أمرًا هذا شأنه، ونعمةً هذا
أثرها، لجديرةٌ بأن نبذل في سبيلها كلَّ رخيص ونفيس، وأن تُستثمَرَ الطاقات وتُسخَّرَ
الجهودُ والإمكانات في سبيل الحِفَاظ عليها وتعزيزها، ومن هنا لا بُدَّ أن ندرك أن
نعمة الأمن لا تُوجَد إلا بوجود مقوِّماتها، ولا تدوم إلا بدوام أسبابها،
فمن أسباب تحقق الأمن :ـ
1ـ توحيد الله تعالى وعبادته وطاعته والعمل الصالح :ـ
قال تعالى}وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ{النور ، والشرك أعظم الظلم؛
قال تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13)} [لقمان]، وهو من أسباب مَحْقِ
البركات واندثار الخيرات. ولقد زين الشيطان لكثير من المشركين أنهم بدخولهم في
الإسلام سيتعرضون لفقد أمنهم، وستتحول حياتهم إلى غربة وعذاب فقال تعالي }وقالوا إن
نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) 57) {(القصص)، فبين لهم سبحانه ما هم فيه من أمن
شامل للطمأنينة وزوال الخوف مع أمن غذائي متكامل}أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه
ثمرات كل شيء رزقا من لدنا{
ولله در القائل :ـ
إِذَا الإِيمَانُ ضَاعَ فَلاَ أَمَانٌ — وَلاَ دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحْيِ دِينَا
وَمَنْ رَضِيَ الحَيَاةَ بِغَيْرِ دِينٍ —- فَقَدْ جَعَلَ الفَنَاءَ لَهَا قَرِينَا
وإذا تخلَّى أبناء المجتمع عن دينهم وكفروا نعمة ربهم، أحاطت بهم المخاوف، وانتشرت
بينهم الجرائم، وانهدم جدار الأمن وادلهمَّ ظلام الخوف والقلق، وهذه هي سنَّة الله
التي لا تتخلَّف في خلقه؛ قال تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ
آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [النحل]. ولقد بين تعالى ان كفر نعمة الأمن كان
سببا من أسباب إهلاك من جحد النعمة. وكان من نعم الله تعالى على مملكة سبأ كونهم
آمنين، فالأمن في ليلهم كنهارهم ينتقلون لقضاء مصالحهم في أمن واطمئنان قال تعالي}وجعلنا
بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي
وأياما آمنين (18){ (سبأ). بل لم يكن الحديث عن فتح مكة حديثا عن الفتح وحده، بل
الفتح حال كونهم آمنين، إذ أن الفتح من دون أمن لا خير يرجى منه، قال الله سبحانه
وتعالى}لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين
(27){ (الفتح). فالأمن التامُّ هو في توحيد الله وطاعته، ولزوم شكره وذكره وحسن
عبادته؛ قال سبحانه وتعالي{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ
اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب(28)} [الرعد].
2ـ الإستقامة :ـ
وحتى نحافظ على الأمن في البلاد؛ فلا بُدَّ من تربية الأمَّة على طاعة الله تعالى
والاستقامة على شرعه والبعد عن معصيته؛ ذلكم أن النفوس المطيعة لا تحتاج إلى رقابة
القانون وسلطة الدولة لكي تردعها عن الجرائم والموبقات؛ لأن رقابة الله والوازع
الإيماني في قلب المؤمن يَقِظٌ لا يغادره في جميع الأحوال. والإستقامة سبب للأمن في
الدنيا و الآخرة قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الاحقاف:13) . فالاستقامة تحقق
لصاحبها الأمن في الدنيا و الآخرة، قال ابن القيم: فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي
من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا و الآخرة و من خرج عنها أحاطت به المخاوف
من كل جانب فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أماناً. ولقد كانت الإستقامة هي
الأمان للذرية بعد الموت فقال تعالي {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ
خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا(9)} [النساء].
3ـ التمسك بالكتاب والسنة :ـ
نحافظ على الأمن بالتمسُّك بالكتابِ والسنَّة، والعناية بفريضة العلم والبحث العلمي؛
فالعلم عصمةٌ من الفتن، والتعليم الشرعيُّ أساسٌ في رسوخ الأمن والاطمئنان. قال ابن
القيِّم رحمه الله في “إعلام الموقعين”: “وإذا ظهر العلمُ في بلدٍ أو محلَّة قلَّ
الشرُّ في أهلها، وإذا خفي العلمُ هناك ظهَر الشرُّ والفساد”.
4ـ إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ علي يد المعتدين:ـ
إن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ صِمام أمان يمنع الشرور والآفات عن
المجتمعات، وبه يحصل العز والتمكين؛ قال تعالي{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40)} [الحج]. ولقد قرر الإسلام حفظ النفس من مقاصد
الشريعة الغراء ،والإعتداء عليها إعتداء علي البشرية جمعاء ، فحرم الاعتداء عليها ،بل
جعل عقوبة من يزهقها النار في الآخرة تكريمًا وصيانة لهذه النفس المسلمة، قال تعالى}مِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا
بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا
وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ) 32){ [المائدة] ، وقال جل من قائل}وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93){ [النساء]. وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
وَأَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ }لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي
دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ{ (رواه الترمذي ،وصححه الألباني).
. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن
أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة
، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام ،
وحسابهم على الله تعالى{ رواه البخاري ومسلم . يتبين لنا أن الإسلام حرم كافة أشكال
التخويف للمسلم، بدءًا من تحريم تخويفه وتهديده بالقتل، وانتهاءً بتحريم ترويعه ولو
على سبيل الهزل والمداعبة، فقال صلى الله عليه وسلم: “لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ
يُرَوِّعَ مُسْلِمًا” (أبو داود). ولقد أراد الإسلام من ذلك كله تحقيق الحياة
الآمنة المستقرة الهادئة لأتباعه أفرادًا ومجتمعات، والتي لا يعكرها سلوك العابثين
والمنحرفين والمجرمين، ولذلك شرع الله سبحانه وتعالى الحدود والتعزيرات الزاجرة لكل
من يحاول العبث والإخلال بأمن المجتمع المسلم، وجعل سبحانه وتعالى عقوبة المفسدين
في الأرض المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين عقوبةً شديدة
لِمَا يسببونه من ترويع للآمنين وإخافة للمسلمين والمستأمنين ونشر للفساد في الأرض،
قال جل وعلا}إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ
ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) 33)
[المائدة[
5ـ الحرية والعدل مفتاح الأمن :ــ
إن غياب العدل والحريات هو الذي يفتح أبواب الفساد والفوضي على مصاريعه، وأنه لم
تحلّ أي إشكالات في الماضي، ولن تحلَّ في الحاضر والمستقبل إلا إذا ساد العدل
والحرية، فإذا ساد الظلم وشاع الطغيان فالأمة على موعدٍ قريبٍ مع الهلاك والسقوط،
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لاَ
يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟” (ابن ماجه وابن حبان). أي أن الأمة التي
لا مجال فيها لأخذ الحق للضعيف من القوي، فلا مجالَ لها بين الأمم، ولا بد أن تذلَّ
وتخزى. ويظن البعض أن هيبة الدولة لا تحفظ إلا بالقهر والشدة علي الناس وهذا مفهوم
خاطئ ، فإن إن الحرية والعدل.. هما ما يحفظان هيبة الدولة ، يقول الإمام التابعي
الجليل عامر الشعبي رحمه الله: “كانت دِرَّةُ عمر رضى الله عنه أهيب من سيف الحجاج”،
“أي عصاه الصغيرة التي كان يؤدب بها المخالفين”، حققت من الهيبة وحفظ النظام ما لم
يحققه سيف الحجاج الباطش الذي حصد رءوسًا كثيرة، وسفك دماء طوائف شتى من العلماء
والفضلاء والعامة؛ إذ كان من منهج عمر رضي الله عنه ألا يقهر الناس أو يتجبر عليهم،
بل يقول لكبار موظفيه وولاته الذين يبعثهم على البلاد المختلفة: “أَلَا لَا
تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ، وَلَا تُجَمِّرُوهُمْ- أي لا تحبسوهم في
الرباط والثغور عن العودة لأهليهم- فَتَفْتِنُوهُمْ، وَلَا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ
فَتُكَفِّرُوهُمْ” (رواه أحمد)، ويقول لهم: “أدِرُّوا على المسلمين حقوقهم”، وبهذا
انتظمت أمور الدولة، وملأت هيبتها القلوب. أما سيف الحجاج فكان له أكبر الأثر في
حصول الثورات على الدولة الأموية التي استخدمته، وكان من نتائج ذلك سقوط الدولة بعد
سنوات قليلة. وهذا الخليفة الكريم العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، كان واليًا
على المدينة، وقد ساس أهلها سياسة حسنة، وجاء الحجاج بن يوسف الثقفي وكان واليًا
على العراق، فسأل أهل المدينة عن عمر: كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر
إليه هيبةً له. قال: كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا، قال: فكيف أدبه
فيكم (يعني: تأديبه للرعية وعقابه للمخطئين) قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى
العشرة، قال الحجاج: هذه هيبته، وهذه محبته، وهذا أدبه؟! هذا أمر من السماء!. وكتب
إليه اثنان من ولاته: نرى أن الناس لا يصلحهم إلا السيف! فكتب عمر رضي الله عنه
إليهما: “خبيثين من الخبث، ورديئين من الرديء، أتعرضان لي بدماء المسلمين؟ والله
لَدَمُكُما أهون عليَّ من دماء المسلمين”. وكتب إليه والي حمص: إن مدينة حمص قد
تهدمت واحتاجت إلى الإصلاح، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: }إذا قرأت كتابي هذا فحصِّنها
بالعدل، ونَقِّ طريقها من الظلم؛ فإنه عمارتها….. والسلام{، وكتب لأحد ولاته: “خذ
الناس بالبينة وما جرت عليه السُّنَّة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله”. ولهذا
كانت المدة اليسيرة التي تأمَّر فيها عمر رضي الله عنه سنتين وخمسة أشهر وبضعة أيام؛
كفيلةً بأن ترفع لواء الأمة، وأن تُعيد لها نهضتها من جديد ، ومتى تحقِّق العدل دامَ
الأمن بإذن الله تعالى.
6ـ تهيئة المحاضن التربوية للشباب والناشئة ،وإحياء دور العلماء والمربون :ـ
لكي نرسي دعائم الأمن ونرسخ قواعده بعيدا عن الفتن واستخدام العنف نحو المجتمع ،
لابد من تهيئة المحاضِن التربوية للشباب والناشئة، ودعم كلِّ المؤسَّسات العاملة في
تربية الناشئة التي تعمل وَفْقَ الكتاب والسنَّة وما عليه سلف الأمة. والتي تقوم
بمعالجة أسباب انحراف الأبناء، بسبب ما تعيشه بعض البيوت من فقر، أو نزاعات وشقاق،
وما ينتج عنها من حالات طلاق وتشرُّد وشقاق.
وإحياء دور العلماء والمربون في احتواء الشباب ومعالجة الأحداث وتقريب وجهات النظر
وتهدئة الانفعالات، وفتح قنوات الحوار الهادف الهادئ مع الشباب؛ لترشيد حماسهم،
وتوجيه انفعالهم، وتسخير طاقاتهم في خدمة الأمَّة، لا في هدمها. إن أمن الوطن لا
يتحقَّق إلا بوجود الأمن الفكري بحماية الأجيال الناشئة، وشباب الأمة، وتحصين
أفكارهم من التيارات والدعوات المشبوهة التي تسمِّم العقول، وتحرف السلوك؛ من دعوات
التغريب،والإلحاد ودعايات الفساد والإفساد؛والإباحية ، والشذوذ ، وغيرها.
العنصر الخامس : أثر تحقق الأمن علي المجتمع:ـ
بتحقق الأمن يحقق الإنتماء والولاء للوطن والشعور بالمسئولية والإيمان بالنظام
والقانون ، مما يدفع الشخص إلى الإيجابية، والمشاركة الفاعلة، والإبداع في عملية
التنمية، وبذل أقصى الجهد، وتقديم أنْفَس التضحيات لحماية الدولة التي يعيش فيها.
وهذا الشعور إذا تحقَّق للأفراد والهيئات داخل دولة ما؛ كفيل بالحفاظ على السيادة
الوطنية، وتحقيق التقدم العلمي والاقتصادي، وتمكين التفوق العسكري، وحريٌّ بأن يدفع
الأمة إلى موقع الصدارة، ويحقق لها كل الآمال في النهضة والتقدم. فأصبح لزاما علي
الجميع المسارعة إلى الإسهام في تحقيق الأمن والرفاهية للمجتمع، وقد بيَّن النبي
صلى الله عليه وسلم اشتراك الجميع في المسئولية، فقال صلى الله عليه وسلم:
“كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ
رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ
مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ،
وَهْيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ
مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ” (متفق عليه).
الخاتمة :ـ هذا هو الاسلام دين السلام، السلام الذي يتحقق به الأمن، فيعيش العبد
آمنا في حياته، يؤدي ما افترضه الله عليه حتى ينقضي وقته في الدنيا، فينتقل من أمن
في دنياه الى أمن في آخرته كما قال تعالي }وهم من فزع يومئذ آمنون (89){ (النمل).
فالمسلم ينشر الأمن في الدنيا، ويعمل على ترسيخه، ويجتهد للحفاظ عليه، حتى يلقى
الله تعالى وتقول له الملائكة كما قال تعالي}ادخلوها بسلام آمنين) 46){ (الحجر).
فاللهم آمنا في أوطاننا، واصرف عنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب
العالمين.
أضف تعليق:
0 comments: