رحلة ابن بطوطة
المسماه
تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار
تأليف
أبو عبد اللّه ابن محمّد اللاّواتي المعروف بان بطوطة
الجزء الثاني
بسم
الله الرحمن الرحيم
صفحة : 51
والوادي يطيف به من جميع جهاته وله باب واحد قد نحت المدخل
اليه في الحجر الصلد، ومدخل دهليزه كذلك وبهذا الحصن يتحصن
الملوك، وإليه يلجؤون في النوائب وله لجأ الملك الناصر، لأنه
ولي الملك وهو صغير السن، فاستولى على التدبير مملوكه سلار
النائب عنه، فأظهر الملك الناصر أنه يريد الحج، ووافقه الأمراء
على ذلك فتوجه إلى الحج فلما وصل عقبة أيلة، لجأ إلى الحصن،
وأقام به أعواما إلى أن قصده أمراء الشام، واجتمعت عليه
المماليك وكان الملك في تلك المدة بيبرس الششنكير ، وهو أمير
الطعام وتسمى بالملك المظفر، وهو الذي بنى الخانقاه البيبرسية،
بمقربة من خانقاه سعيد السعداء التي بناها صلاح الدين بن أيوب
فقصده الملك الناصر بالعساكر، ففر بيبرس إلى الصحراء، فتبعته
العساكر وقبض عليه، وأتي به إلى الملك الناصر فأمر بقتله
فقتل.وقبض على سلار، وحبس في جب حتى مات جوعا. ويقال: إنه أكل
جيفة من الجوع نعوذ بالله من ذلك. وأقام الركب بخارج الكرك
أربعة أيام بموضع يقال له الثنية، وتجهزوا لدخول البرية. ثم
ارتحلنا إلى معان، وهو آخر بلاد الشام، ونزلنا من عقبة الصوان
إلى الصحراء التي يقال فيها: داخلها مفقود وخارجها مولود. وبعد
مسيرة يومين نزلنا ذات حج، وهي حسيان لا عمارة بها، ثم إلى
وادي بلدح ولا ماء به، ثم إلى تبوك وهو الموضع الذي غزاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم. وفيها عين ماء كانت تبض بشيء من
الماء. فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ منها،
جادت بالماء المعين. ولم يزل إلى هذا العهد ببركة رسول الله
صلى الله عليه وسلم. ومن عادة حجاج الشام إذا وصلوا منزل تبوك،
أخذوا أسلحتهم، وجردوا سيوفهم، وحملوا على المنزل، وضربوا
النخل بسيوفهم، ويقولون: هكذا دخلها رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وينزل الركب العظيم على هذه العين فيروي منها جميعهم،
ويقيمون أربعة أيام للراحة وإرواء الجمال واستعداد الماء
للبرية المخوفة التي بين العلا وتبوك. ومن عادة السقائين أنهم
ينزلون على جوانب هذه العين، ولهم أحواض مصنوعة من جلود
الجواميس، كالصهاريج الضخام يسقون منها الجمال، ويملأون
الروايا والقرب. ولكل أمير أو كبير حوض يسقي منه جماه وجمال
أصحابه، ويملأ رواياهم. وسواهم من الناس يتفق مع السقائين على
سقي جمله وملء قربته، بشيء معلوم من الدراهم.
ثم
يرحل الركب من تبوك، ويجدون السير ليلا ونهارا خوفا من هذه
البرية. وفي وسطها الوادي الأخيضر: كأنه وادي جهنم، أعاذنا
الله منها. وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح
السموم التي تهب، فانتشفت المياه، وانتهت شربة الماء إلى ألف
دينار، ومات مشتريها وبائعها. وكتب ذلك في بعض صخر الوادي. ومن
هنالك ينزلون بركة المعظم، وهي ضخمة، نسبتها إلى الملك المعظم
من أولاد أيوب. ويجتمع بها ماء المطر في بعض السنين، وربما جف
في بعضها، وفي الخامس من أيام رحيلهم عن تبوك يصلون البئر
الحجر حجر ثمود، وهي كثيرة الماء، ولكن لا يردها أحد من الناس،
مع شدة عطشهم، اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
مر بها في غزوة تبوك، فأسرع براحلته وأمر أن لا يسقى منها أحد.
ومن عجن به أطعمه الجمال. وهنالك ديار ثمود في جبال من الصخر
الأحمر منحوتة، لها عتب منقوشة يظن رائيها أنها حديثة الصنعة،
وعظامهم نخرة في داخل تلك البيوت. إن في ذلك لعبرة، ومبرك ناقة
صالح عليه السلام بين جبلين هنالك، وبينهما أثر مسجد يصلي
الناس فيه، وبين الحجر والعلا نصف يوم أو دونه. والعلا قرية
كبيرة حسنة لها بساتين النخل والمياه المعينة، يقيم بها الحجاج
أربعا، يتزودون ويغسلون ثيابهم ويدعون بها ما يكون عندهم من
فضل زاد ويستصحبون قدر الكفاية. وأهل هذه القرية أصحاب أمانة،
وإليها ينتهي تجار نصارى الشام، لا يتعدونها، ويبايعون الحجاج
الزاد وسواه. ثم يرحل الركب من العلا فينزلون في غد رحيلهم
الوادي المعروف بالعطاس، وهو شديد الحر تهب فيه السموم
المهلكة. هبت السنين على الركب فمل يخلص منها إلا اليسير.
وتعرف تلك السنة سنة الأمير الجالقي، ومنه ينزلون هدية، وهي
حسيان ماء بواد يحفرون به، فيخرج الماء وهو زعاق. وفي اليوم
الثالث ينزلون البلد المقدس الكريم الشريف.
طيبة
مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم
صفحة : 52
وفي عشي ذلك اليوم دخلنا الحرم الشريف، وانتهينا إلى المسجد
الكريم، فوقفنا بباب السلام مسلمين، وصلينا بالروضة الكريمة
بين القبر والمنبر الكريم، واستلمنا القطعة الباقية من الجذع
الذي حن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ملصقة بعمود
قائم بين القبر والمنبر عن يمين مستقبل القبلة، وأدينا حق
السلام على سيد الأولين والآخرين، وشفيع العصاة والمذنبين،
والرسول النبي الهاشمي الأبطحي محمد صلى الله عليه وسلم
تسليما، وشرف وكرم وحق السلام على ضجيعيه وصاحبيه أبي بكر
الصديق وأبي حفص عمر الفاروق رضي الله عنهما. وانصرفنا إلى
رحلنا مسرورين بهذه النعمة العظمى، مستبشرين بنيل هذه المنة
الكبرى، حامدين الله تعالى على بالبلوغ إلى معاهد رسوله
الشريفة، ومشاهده العظيمة المنيفة، داعين أن لا يجعل ذلك آخر
عهدنا بها، وأن يجعلنا ممن قبلت زيارته، وكتبت في سبيل الله
سفرته.
ذكر
مسجد رسول الله وروضته الشريفة
المسجد المعظم مستطيل، تحفه من جهاته الأربع بلاطات دائرة به،
ووسطه صحن مفروش بالحصى والرمل، ويدور بالمسجد الشريف شارع
مبلط بالحجر المنحوت. والروضة المقدسة صلوات الله وسلامه على
ساكنها في الجهة القبلية مما يلي الشرق من المسجد الكريم،
وشكلها عجيب لا يتأتى تمثيله. ووهي منورة بالرخام البديع النحت
الرائق النعت، قد علاها تضميخ المسك والطيب مع طول الأزمان.
وفي الصفة القبلية منها مسمار فضة هو قبالة الوجه الكريم.
وهنالك يقف الناس مستقبلين الوجه الكريم مستدبرين القبلة،
فيسلمون وينصرفون يمينا إلى وجه أبي بكر الصديق، ورأس أبي بكر
رضي الله عنه عند قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم
ينصرفون إلى عمر بن الخطاب، ورأس عمر عند كتفي أبي بكر رضي
الله عنهما. وفي الجوفي من الروضة المقدسة، زادها الله طيبا،
حوض صغير مرخم، وفي قبلته شكل محراب، يقال: إنه كان بيت فاطمة
بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما، ويقال أيضا: هو
قبرها، والله أعلم. وفي وسط المسجد الكريم دفة مطبقة على وجه
الأرض، مقفلة على سرداب له مدرج يفضي إلى دار أبي بكر رضي الله
عنه خارج المسجد، وعلى ذلك السرداب كان طريق عائشة أم المؤمنين
رضي الله عنها إلى داره، ولا شك أنه هو الخوخة التي ورد ذكرها
في الحديث، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبقائها، وسد ما
سواها. وبإزاء دار أبي بكر رضي الله عنه دار عمر، ودار ابنه
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وبشرقي المسجد الكريم دار
إمام المدينة أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه، وبمقربة
من باب السلام سقاية، ينزل إليها على درج، ماؤها معين، وتعرف
بالعين الزرقاء.
ذكر ابتداء بناء المسجد الكريم قدم رسول الله صلى الله عليه
وسلم تسليما المدينة الشريفة دار الهجرة يوم الإثنين ليلة
الثالث عشر من شهر ربيع الأول، فنزل على بني عمرو بن عوف،
وأقام عندهم ثنتين وعشرين ليلة، وقيل أربع عشرة ليلة، وقيل
أربع ليال، ثم توجه إلى المدينة فنزل على بني النجار بدار أبي
أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وأقام عنده سبعة أشهر حتى بنى
مساكنه ومسجده. وكان موضع المسجد مربدا لسهل وسهيل ابني رافع
أبي عمر بن عاند بن ثعلبة بن غانم بن مالك بن النجار. وهما
يتيمان في حجر أسعد بن زرارة رضي الله عنهم أجمعين. وقيل: كانا
في حجر أبي أيوب رضي الله عنه، فابتاع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذلك المربد، وقيل بل أرضاهما أبو أيوب عنه. وقيل: إنهما
وهباه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبنى رسول الله صلى الله
عليه وسلم المسجد، وعمل فيه مع أصحابه، وجعل عليه حائطا، ولم
يجعل له سقفا ولا أساطين، وجعله مربعا، طوله مائة ذراع، وعرضه
مثل ذلك. وقيل: إن عرضه كان دون ذلك. وجعل ارتفاع حائطه قدر
القامة. فلما اشتد الحر تكلم أصحابه في تسقيفه، فأقام له
أساطين من جذوع النخل، وجعل سقفه من جريدها. فلما أمطرت السماء
وكف المسجد. فكلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول
الله صلى الله عليه وسلم في عمله بالطين. فقال: كلا عريش كعريش
موسى، أو ظله كظلة موسى، والأمر أقرب من ذلك.
قيل: وما ظلة موسى ? قال الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا
قام أصاب السقف رأسه.
صفحة
: 53
وجعل للمسجد ثلاثة أبواب: ثم سد باب الجنوب منها حين حولت
القبلة، وبقي المسجد على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
تسليما، وحياة أبي بكر رضي الله عنه. فلما كانت أيام عمر بن
الخطاب رضي الله عنه زاد في مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
ينبغي أن نزيد في المسجد ما زدت فيه. فأنزل أساطين الخشب، وجعل
مكانها أساطين اللبن، وجعل الأساس حجارة إلى القامة، وجعل
الأبواب ستة، منها في كل جهة ما عدا القبلة بابان، وقال: في
باب منها ينبغي أن يترك هذا للنساء فما رئي فيه. حتى لقي الله
عز وجل، وقال: زدنا في هذا المسجد حتى يبلغ الجبانة، لم يزل
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد عمر أن يدخل في
المسجد موضعا للعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي
عنهما، فمنعه منه. وكان فيه ميزاب يصب في المسجد، فنزعه عمر.
وقال: إنه يؤذي الناس، فنازعه العباس، وحكما بينهما أبي بن كعب
رضي الله عنهما، فأتيا داره فلم يأذن لهما إلا بعد ساعة، ثم
دخلا إليه، فقال: كانت جاريتي تغسل رأسي، فذهب عمر ليتكلم،
فقال له أبي: دع أبا الفضل يتكلم لمكانه من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال العباس، خطة خطها لي رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وبنيتها معه، وما وضعت الميزاب إلا ورجلاي على عاتقي
رسول الله فجاء عمر فطرحه وأراد إدخالها في المسجد. فقال أبي:
إن عندي من هذا علما. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
أراد داود عليه السلام أن يبني بيت الله المقدس. وكان فيه بيت
ليتيمين فراودهما على البيع فأبيا. ثم راودهما فباعاه. ثم قاما
بالغين فردا البيع، واشتراه منهما. ثم رداه كذلك. فاستعظم داود
الثمن. فأوحى الله إليه إن كنت تعطي من شيء فهو لك؛ فأنت أعلم.
وإن كنت تعطيهما نم رزقنا فأعطهما حتى يرضيا. وإن أغنى البيوت
عن مظلمة بيت هو لي، وقد حرمت عليك بناءه.
قال: يا رب فأعطه سليمان. فأعطاه سليمان ليه السلام. فقال
عمر: من لي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ? فخرج أبي
إلى قوم من الأنصار، فأثبتوا له ذالك. فقال عمر رضي الله عنه
أما إني لو لم أجد غيرك أخذت قولك، ولكنني أحببت أن أثبت. ثم
قال للعباس رضي الله عنه: والله لا ترد الميزاب إلا وقدماك على
عاتقي. ففعل العباس ذلك. ثم قال: أما إذا أثبتت لي، فهي صدقة
لله، فهدمها عمر، وأدخلها في المسجد. ثم زاد فيه عثمان رضي
الله عنه، وبناه بقوة وباشره بنفسه، فكان يظل فيه نهاره، وبيضه
وأتقن محله بالحجارة المنقوشة، ووسعه من جهاته إلى جهة الشرق
منها، وجعل له سواري حجارة مثبتة بأعمدة الحديد والرصاص، وسقفه
بالساج، وصنع له محرابا.
وقيل: إن مروان هو أول من بنى المحراب. وقيل: عمر بن عبد
العزيز في خلافة الوليد - ثم زاد فيه الوليد بن عبد الملك.
تولى ذلك عمر بن عبد العزيز، فوسعه وحسنه وبالغ في إتقانه،
وعمله بالرخام والساج المذهب. وكان الوليد بعث إلى ملك الروم:
أريد أن أبني مسجد نبينا صلى الله عليه وسلم، فأعني فيه. فبعث
إليه الفعلة، وثمانين ألف مثقال من الذهب. وأمر الوليد بإدخال
حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فاشترى عمر من الدور
ما زاد في ثلاث جهات من المسجد. فلما صار إلى القبلة، امتنع
عبيد الله بن عبد الله بن عمر من بيع دار حفصة، ودار بينهما
الكلام، حتى ابتاعها عمر، على أن له ما بقي منها، وعلى أن
يخرجوا من باقيها طريقا إلى السجد، وهي الخوخة التي في المسجد،
وجعل عمر للمسجد أربع صوامع في أربعة أركانه، وكانت إحداها
مطلة على دار مروان. فلما حج سليمان بن عبد الملك نزل بها،
فأطل عليه المؤذن حين الأذان. فأمر بهدمها، وجعل عمر للمسجد
محرابا.
صفحة : 54
ويقال: هو أول من أحدث المحراب. ثم زاد فيه المهدي بن أبي جعفر
المنصور. وكان أمرهم بذلك، ولم يقض له، وكتب إليه الحسن بن زيد
يرغبه في الزيادة فيه من جهة الشرق، ويقول: إنه إن زيد في
شرقيه توسطت الروضة الكريمة المسجد الكريم. فاتهمه أبو جعفر
بأنه إنما أراد هدم دار عثمان رضي الله عنه. فكتب إليه: إني قد
عرفت الذي أردت، فاكفف عن دار عثمان وأمر أبو جعفر أن يطلل
الصحن أيام القيظ بستور تنشر على حبال ممدودة على خشب، تكون في
الصحن، لتكن المصلين من الحر، وكان طول المسجد في بناء الوليد
مائتي ذراع. فبلغه المهدي إلى ثلاثمائة ذراع، وسوى المقصورة
بالأرض، وكانت مرتفعة عنها بمقدار ذراعين، وكتب اسمه على مواضع
من المسجد. ثم أمر الملك المنصور قلاوون ببناء دار للوضوء عند
باب السلام - فتولى بناءها الأمير الصالح علاء الدين المعروف
بالأقمر. وأقامها متسعة الفناء تستدير بها البيوت، وأجرى إليها
الماء. وأراد أن يبني بمكة شرفها الله تعالى مثل ذلك، فلم يتم
له، فبناه ابنه الملك الناصر بين الصفا والمروة. وسيذكر إن شاء
الله. قبلة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبلة قطع لأنه
صلى الله عليه وسلم أقامها. وقيل: أقامها جبريل عليه السلام.
وقيل: كان يشير جبريل له إلى سمتها وهو يقيمها. وروي أم جبريل
عليه السلام أشار إلى الجبال، فتولضعت فتنحت حتى بدت الكعبة.
فكان صلى الله عليه وسلم يبني وهو ينظر إليه عيانا. وبكل
اعتبار فهي قبلة قطع وكانت القبلة أول ورود النبي صلى الله
عليه وسلم المدينة إلى بيت المقدس. ثم حولت إلى الكعبة بعد ستة
عشر شهرا. وقيل: بعد سبعة عشر شهرا.
ذكر المنبر الكريم وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم تسليما كان يخطب إلى جزع نخلة بالمسجد، فلما صنع له
المنبر وتحول إليه حن الجذع حنين الناقة إلى حوارها .وروي: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما نزل إليه فالتزمه فسكن.
وقال: لو لم ألتزمه لحن إلى يوم القيامة. واختلفت الروايات
فيمن صنع المنبر الكريم. فروي أن تميما الداري رضي الله عنه هو
الذي صنعه. وقيل: إن غلاما للعباس رضي الله عنه صنعه، وقيل:
غلام لأمرأة من الأنصار ورد ذلك في الحديث الصحيح. وصنع من
طرفاء الغابة، وقيل من الأثل. وكان له ثلاث درجات. فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقعد على علياهن، ويضع رجليه
الكريمتين في وسطاهن. فلما ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه
قعد على وسطاهن، وجعل رجليه على أولاهن. فلما ولي عمر رضي الله
عنه جلس على أولاهن وجعل رجليه على الأرض، وفعل ذلك عثمان رضي
الله عنه صدرا من خلافته، ثم ترقى إلى الثالثة. ولما أن صار
الأمر إلى معاوية رضي الله عنه أراد نقل المنبر إلى الشام، فضج
المسلمون. وعصفت ريح شديدة، وخسفت الشمس، وبدت النجوم نهارا،
وأظلمت الأرض، فكان الرجل يصادم الرجل ولا يتبين مسلكه، فلما
رأى ذلك معاوية تركه، وزاد فيه ست درجات من أسفله، فبلغ تسع
درجات.
ذكر الخطيب والإمام بمسجد رسول الله وكان الإمام بالمسجد
الشريف في عهد دخولي إلى المدينة بهاء الدين بن سلامة من كبار
أهل مصر، وينوب عنه العالم االصالح الزاهد بقية المشايخ، عز
الدين الواسطي، نفع الله به، وكان يخطب قبله ويقضي بالمدينة
الشريفة سراج الدين عمر المصري.
حكاية
يذكر أن سراج الدين هذا أقام في خطة القضاء بالمدينة والخطابة
بها نحو أربعين سنة، ثم إنه أراد الخروج بعد ذلك إلى مصر، فرأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم ثلاث مرات، في كل مرة
ينهاه عن الخروج منها، وأخبره باقتراب أجله، فلم ينته عن ذلك
وخرج، فمات بموضع يقال له: سويس ، على مسيرة ثلاث من مصر، قبل
أن يصل إليها، نعوذ بالله من سوء الخاتمة. وكان ينوب عنه
الفقيه أبو عبد الله محمد بن فرحون رحمه الله، وأبناؤه الآن
بالمدينة الشريفة: أبو محمد عبد الله مدرس المالكية، ونائب
الحكم، وأبو عبد الله محمد وأصلهم من مدينة تونس، ولهم بها حسب
وأصالة. وتولي الخطابة والقضاء بالمدينة الشريفة بعد ذلك جمال
الدين الأسيوطي من أهل مصر. وكان قبل ذلك قاضيا بحصن الكرك.
ذكر
خدام المسجد الشريف والمؤذنين به
صفحة : 55
وخدام هذا المسجد الشريف وسدنته من الأحابيش وسواهم وهم على
هيئات حسان، وصور نظاف، وملابس ظراف، وكبيرهم يعرف بشيخ
الخدام، وهو في هيئة الأمراء الكبار، ولهم المرتبات بديار مصر
والشام، ويؤتى إليهم بها في كل سنة، ورئيس المؤذنين بالحرم
الشريف الإمام المحدث الفاضل جمال الدين المطري، من مطرية قرية
بمصر، وولده الفاضل عفيف الدين عبد الله، والشيخ المجاور
الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد الغرناطي المعروف
بالتراس قديم المجاورة، وهو الذي جب نفسه خوفا من الفتنة.
حكاية
يذكر
أن أبا عبد الله الغرناطي كان خديما لشيخ يسمى عبد الحميد
العجمي، وكان الشيخ حسن الظن به، يطمئن إليه بأهله، ويتركه متى
سافر بداره، فسافر مرة، وتركه على عادته بمنزله، فعلقت به زوجة
الشيخ عبد الحميد وراودته عن نفسه، فقال: إني أخاف الله ولا
أخون من ائتمنني على أهله وماله. فلم تزل تراوده وتعارضه حتى
خاف على نفسه الفتنة فجب نفسه، وغشي عليه، ووجده الناس على تلك
الحالة، فعالجوه حتى برئ وصار من خدام المسجد الكرام، ومؤذنا
به، ورأس الطائفين به. وهو باق بقيد الحياة إلى هذا العهد.
ذكر
المجاورين بالمدينة الشريفة
منهم الشيخ الصالح الفاضل أبو العباس أحمد بن محمد مرزوق كثير
العبادة والصوم والصلاة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
تسليما، صابرا محتسبا، وكان ربما جاور بمكة المعظمة، رأيته بها
في سنة ثمان وعشرين، وهو أكثر الناس طوافا وكنت أعجب من
ملازمته الطواف مع شدة الحر بالمطاف، والمطاف مفروش بالحجارة
السود: وتصير بحر الشمس كأنها الصفائح المحماة. ولقد رأيت
السقائين يصبون الماء عليها فما يجاوز الموضع الذي يصب فيه إلا
ويلتهب الموضع من حينه. وأكثر الطائفين في ذلك الوقت يلبسون
الجوارب وكان أبو العباس بن مرزوق يطوف حافي القدمين، ورأيته
يوما يطوف، فأحببت أن أطوف معه فوصلت المطاف، وأردت استلام
الحجر الأسود، فلحقني لهب تلك الحجارة، وأردت الرجوع بعد تقبيل
الحجر، فما وصلته إلا بعد جهد عظيم، ورجعت فلم أطف ورجعت أجعل
نجادي على الأرض وأمشي عليه، حتى بلغت الرواق. وكان في ذلك
العهد بمكة وزير غرناطة وكبيرها أبو القاسم محمد ابن محمد بن
الفقيه أبي الحسن سهل بن مالك الأزدي. وكان يطوف كل اسبوع
سبعين طوافا، ولم يكن يطوف في وقت القائلة لشدة الحر. وكان ابن
مرزوق يطوف في شدة القائلة زيادة عليه. ومن المجاورين بالمدينة
كرمها الله الشيخ الصالح العابد سعيد المراكشي الكفيف، ومنهم
أبو مهدي عيسى بن حزرون المكناسي.
حكاية جاور الشيخ أبو مهدي بمكة سنة ثمان وعشرين، وخرج إلى
جبل حراء مع جماعة من المجاورين، فلما صعدوا الجبل ووصلوا
لمتعبد النبي الله صلى الله عليه وسلم تسايما ونزلوا عنه، تأخر
أبو مهدي عن الجماعة، ورأى طريقا في الجبل، فظنه قصيرا فسلك
عليه، ووصل أصحابه إلى أسفل اجبل فانتظروه فلم يأت، فتطلعوا
فيما حولهم فلم يروا له أثرا فظنوا أنه سبقهم، فمضوا إلى مكة
شرفها الله تعالى، ومضى عيسى في طريقه، فأفضى به إلى جبل آخر،
وتاه عن الطريق، وأجهده العطش والحر، وتمزقت نعله، فكان يقطع
من ثيابه ويلف على رجليه إلى أن ضعف عن المشي، واستظل بشجرة أم
غيلان . فبعث الله أعرابيا على جمل، حتى وقف عليه: فأعلمه
بحاله، فأركبه وأوصله إلى مكة، وكان على وسطه هيمان فيه ذهب
فسلمه إليه، وأقام نحو شهر لا يستطيع القيام على قدميه، وذهبت
جلدتهما ونبتت لهما جلدة أخرى. وقد جرى مثل ذلك لصاحب لي أذكره
إن شاء الله. ومن المجاورين بالمدينة الشريفة أبو محمد الشروي
من القراء المحسنين، وجاور بمكة في السنة المذكورة. وكان يقرأ
بها كتاب الشفاء للقاضي عياض بعد الظهر، وأم في التراويح. وبها
من المجاورين الفقيه أبو العباس الفاسي مدرس المالكية بها،
وتزوج ببنت الشيخ الصالح شهاب الدين الزرندي.
صفحة : 56
حكاية: يذكر أن أبا العباس الفاسي تكلم يوما مع بعض الناس
فانتهى به الكلام إلى أن تكلم بعظيمة ارتكب فيها بسبب جهله
بعلم النسب، وعدم حفظه للسانه مركبا صعبا عفا الله عنه، فقال
الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام لم يعقب، فرفع كلامه
إلى أمير المدينة طفيل بن منصور بن جماز الحسني ، فأنكر كلامه،
وبحق إنكاره، وأراد قتله. فكلم فيه فنفاه عن المدينة. ويذكر
أنه بعث من اغتاله وإلى الآن لم يظهر له أثر نعوذ بالله من
عثرات اللسان وزلله.
ذكر أمير المدينة الشريفة
كان أمير المدينة كبيش بن منصور بن جماز. وكان قد قتل عمه
مقبلا. ويقال: إنه توضأ بدمه. ثم إن كبيشا خرج سنة سبع وعشرين
إلى الفلاة في شدة الحر ومعه أصحابه، فأدركتهم القائلة في بعض
الأيام، فتفرقوا تحت ظلال الأشجار فما راعهم إلا وأبناء مقبل
في جماعة من عبيدهم ينادون: يا لثارات مقبل، فقتلوا كبيش بن
منصور صبرا، ولعقوا دمه. وتولى بعده أخوه طفيل بن منصور، الذي
ذكرنا أنه نفى أبا العباس الفاسي.
ذكر بعض المشاهد الكريم بخارج المدينة الشريفة
فمنها بقيع الغرقد، وهو بشرقي المدينة المكرمة، ويخرج إليه
على باب يعرف بباب البقيع. فأول ما يلقى الخارج إليه على يساره
عند خروجه من الباب قبر صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنهما،
وهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما، وأم الزبير بن
العوام رضي الله عنه، وأمامها قبر إمام المدينة أبي عبد الله
مالك بن أنس رضي الله عنه، وعليه قبة صغيرة مختصرة البناء،
وأمامه قبر السلالة الطاهرة المقدسة النبوية الكريم إبراهيم بن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قبة بيضاء، وعن يمينها
تربة عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو المعروف
بأبي شحمة، وبإزائه قبر عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبر
عبد الله بن ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه،
وبإزائهم روضة فيها قبور أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ويليها
روضة فيها قبر العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، وهي
قبة ذاهبة في الهواء بديعة الإحكام، عن يمين الخارج من باب
البقيع، ورأس الحسن إلى رجلي العباس عليهما السلام، وقبراهما
مرتفعان عن الأرض، متسعان مغشيان بألواح بديعة الالتصاق، مرصعة
بصفائح الصفر البديعة العمل. وبالبقيع قبور المهاجرين والأنصار
وسائر الصحابة رضي الله عنهم. إلا أنها لا يعرف أكثرها. وفي
آخر البقيع قبر أمير المؤمنين أبي عمر عثمان بن عفان رضي الله
عنه، وعليه قبة كبيرة وعلى مقربة منه قبر فاطمة بنت أسد بن
هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله عنها وعن ابنها.
ومن المشاهد الكريمة قباء، وهو قبلي المدينة، على نحو ميلين
منها والطريق بينهما في حدائق النخل، وبه المسجد الذي أسس على
التقوى والرضوان. وهو مسجد مربع فيه صومعة بيضاء طويلة تظهر
على البعد وفي وسطه مبرك الناقة بالنبي صلى الله عليه وسلم،
يتبرك الناس بالصلاة فيه، وفي الجهة القبلية من صحنه محراب على
مصطبة، وهو أول موضع ركع فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي
قبلي المسجد دار كانت لأبي أيوب الأنصاري. ويليها دور تنسب
لأبي بكر وعمر وفاطمة وعائشة رضي الله عنهم. وبإزائه بئر أريس،
وهي التي عاد ماؤها عذبا لما تفل فيه النبي صلى الله عليه
وسلم، بعد أن كان أجاجا. وفيها وقع الخاتم الكريم من عثمان رضي
الله عنه.
صفحة : 57
ومن المشاهد فيه حجر الزيوت بخارج المدينة الشريفة. يقال: إن
الزيت رشح من حجر هنالك للنبي صلى الله عليه وسلم. وإلى جهة
الشمال منه بئر بضاعة. بإزائها جبل الشيطان، حيث صرخ يوم أحد
وقال: قد قتلت نبيكم. وعلى شفير الخندق الذي حفره رسول الله
صلى الله عليه وسلم عند تخرب الأحزاب، حصن خرب يعرف بحصن
العزاب. يقال: إن عمر بناه لعزاب المدينة. وأمامه إلى جهة
الغرب بئر رومة التي اشترى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه
نصفها بعشرين ألفا ، ومن المشاهد الكريمة أحد، وهو الجبل
المبارك الذي قال فيه رسول اله صلى الله عليه وسلم تسليما: إن
أحدا جبل يحبنا ونحبه وهو بجوار المدينة الشريفة، على نحو
فرسخ منها، وبإزائه الشهداء المكرمون رضي الله عنهم. وهنالك
قبر حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه،
وحوله الشهداء المستشهدون في أحد رضي الله عنهم، وقبورهم لقبلي
أحد. وفي طريق أحد مسجد ينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه،
ومسجد ينسب إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه، ومسجد الفتح حيث
أنزلت سورة الفتح على رسوله صلى الله عليه وسلم. وكانت إقامتنا
بالمدينة الشريفة في هذه الوجهة أربعة أيام: وفي كل ليلة نبيت
بالمسجد الكريم، والناس قد حلقوا في صحنه حلقا، وأوقدوا الشمع
الكبير. وبينهم ربعات القرآن الكريم يتلونه، وبعضهم يذكرون
الله، وبعضهم في مشاهدة التربة الطاهرة، زادها الله طيبا،
والحداة بكل جانب يترنمون بمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا دأب الناس في تلك الليالي المباركة، ويجودون بالصدقات
الكثيرة على المجاورين والمحتاجين. وكان في صحبتي في هذه
الوجهة من الشام إلى المدينة الشريفة رجل من أهلها فاضل يعرف
بمنصور بن شكل، وأضافني بها. واجتمعنا بعد ذلك بحلب وبخارى.
وكان في صحبتي أيضا قاضي الزيدية شرف الدين قاسم بن شنان،
وصحبني أيضا أحد الصلحاء الفقراء، من أهل غرناطة، يسمى بعلي بن
حجر الأموي.
حكاية لما وصلنا إلى المدينة كرمها الله، على ساكنها أفضل
الصلاة وأزكى السلام، ذكر لي علي بن حجر المذكور أنه رأى تلك
الليلة في النوم قائلا يقول له: اسمع مني واحفظ عني:
هنيئا لـكـم يا زائرين ضـريحـه أمنتم به
يوم المعاد من الـرجـس
وصلتم إلى قبر الحبـيب بـطـيبة فطوبى لمن
يضحي بطيبة أو يمسى وجاور هذا الرجل بعد صحبه بالمدينة. ثم رحل
إلى مدينة دهلي قاعدة بلاد الهند، في سنة ثلاث وأربعين، فنزل
في جواري. وذكرت حكاية رؤياه بين يدي ملك الهند، فأمر بإحضاره،
فحضر بين يديه، وحكى له ذلك، فأعجبه واستحسنه، وقال له كلاما
جميلا بالفارسية، وأمر بإنزاله، وأعطاه ثلاثمائة تنكة من ذهب.
ووزن التنكة من دنانير المغرب ديناران ونصف دينار، وأعطاه فرسا
محلى بالسرج واللجام، وخلعة، وعين له مرتبا في كل يوم. وكان
هنالك فقيه طيب من أهل غرناطة، ومولده ببجاية، يعرف هنالك
بجمال الدين المغربي. فصحبه علي بن حجر المذكور، وواعده على أن
يزوجه بنته. وأنزله بدويرة خارج داره، واشترى جارية غلاما.
وكان يترك الدنانير في مفرش ثيابه ولا يطمئن بها لأحد. فاتفق
الغلام والجارية على أخذ ذلك الذهب. وأخذاه وهربا. فلما أتى
الدار لم يجد لهما أثرا، ولا للذهب. فامتنع عن الطعام والشراب،
واشتد به المرض أسفا على ما جرى عليه، فعرضت قضيته بيد يدي
الملك، فأمر أن يخلف له ذلك، وبعث إليه من يعلمه بذاك، فوجدوه
قد مات رحمه الله تعالى. وكان رحيلنا من المدينة، نريد مكة
شرفهما الله تعالى. فنزلنا بقرب مسجد ذي الحليفة الذي أحرم منه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمدينة منه على خمسة أميال،
وهو منتهى حرم المدينة. وبالقرب منه وادي العقيق. وهنالك تجردت
من مخيط الثياب واغتسلت ولبست ثوب احرامي وصليت ركعتين وأحرمت
بالحج مفردا. ولم أزل ملبيا في كل سهل وجبل وصعود وحدور إلى أن
أتيت شعب علي عليه السلام، وبه نزلت تلك الليلة.
ثم رحلنا منه ونزلنا بالروحاء، وبها بئر تعرف ببئر ذات العلم.
ويقال: إن عليا عليه السلام قاتل بها الجن.
ثم رحلنا ونزلنا بالصفراء. وهو واد معمور، فيه ماء ونخل
وبنيان، وقصر يسكنه الشرفاء الحسنيون وسواهم، وفيها حصن كبير،
وتواليه حصون كثيرة وقرى متصلة.
صفحة : 58
ثم رحلنا منه، ونزلنا ببدر حيث نصر الله رسوله صلى الله عليه
وسلم، وأنجز وعده الكريم، واستأصل صناديد المشركين. وهي قرية
فيها حدائق نخل متصلة، وبها حصن منيع يدخل إليه من بطن واد بين
جبال. وببدر عين فوارة يجري ماؤها وموضع القليب الذي سبح به
أعداء الله المشركون. هو اليوم بستان. وموضع الشهداء رضي الله
عنهم خلفه. وجبل الرحمة الذي نزلت به الملائكة على يسار الداخل
منه إلى الصفراء، وبإزائه جبل الطبول، وهو شبه كثيب الرمل
ممتد. ويزعم أهل تلك البلدة أنهم يسمعون هنالك مثل أصوات
الطبول في كل ليلة جمعة وموضع عريش رسول الله صاى الله عليه
وسلم الذي كان به يوم بدر، يناشد ربه جل وتعالى، متصل بسفح جبل
الطبول، وموضع الواقعة أمامه، وعند نخل القليب مسجد يقال له
مبرك ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبين بدر والصفراء
نحو بريد في واد بين جبال تطرد فيه العيون، وتتصل حدائق النخل.
ورحلنا من بدر إلى الصحراء المعروفة بقاع البزواء، وهي برية
يضل بها الدليل، ويذهل عن خليله الخليل. مسيرة ثلاث وفي
منتهاها وادي رابغ، يتكون فيه المطر غدرانا يبقى بها الماء
زمانا طويلا، ومنه يحرم حجاج مصر والمغرب، وهو دون الجحفة.
وسرنا من رابغ ثلاثا إلى خليص، ومررنا بعقبة السويق، وهي على
مسافة نصف يوم من خليص، كثيرة الرمل والحجاج يقصدون شرب السويق
بها، ويستصحبونه من مصر والشام برسم ذلك، ويسقونه الناس مخلطا
بالسكر. والأمراء يملأون منه الأحواض، ويسقونها الناس ويذكرون
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بها. ولم يكن مع أصحابه
طعام فأخذ من رملها فأعطاهم إياه فشربوه سويفا. ثم نزلنا بركة
خليص وهي في بسيط من الأرض، كثيرة حدائق النخل، لها حصن مشيد
في قنة جبل. وفي البسيط حصن خرب، وبها عين فوارة صنعت لها
أخاديد في الأرض، وسربت إلى الضياع. وصاحب خليص شريف حسني
النسب. وعرب تلك الناحية يقيمون هنالك سوقا عظيمة يجلبون إليها
الغنم والتمر والأدام. ثم رحلنا إلى عسفان، وهي في بسيط من
الأرض، بين جبال، وبها آبار ماء معين، تنسب إحداها إلى عثمان
بن عفان رضي الله عنه. والمدرج المنسوب إلى عثمان أيضا على
مسافة نصف يوم من خليص، وهو مضيق بين جبلين. وفي موضع منه بلاط
على صورة درج، وأثر عمارة قديمة. وهنالك بئر تنسب إلى علي عليه
السلام. ويقال: إنه أحدثها. وبعسفان حصن عتيق وبرج مشيد قد
أوهنه الخراب، وبه من شجر المقل كثير. ثم رحلنا من عسفان،
ونزلنا بطن مر، ويسمى أيضا مر الظهران ، وهو واد مخصب كثير
النخل، ذو عين فوارة سيالة تسقي تلك الناحية. ومن هذا الوادي
تجلب الفواكه والخضر إلى مكة شرفها الله تعالى. ثم أدلجنا من
هذا الوادي المبارك، والنفوس مستبشرة ببلوغ آمالها مسرورة
بحالها ومآلها، فوصلنا عند الصباح إلى البلد الأمين مكة شرفها
الله تعالى، فوردنا منها على حرم الله تعالى، ومبوإ خليله
إبراهيم، ومبعث صفية محمد صلى الله عليه وسلم. ودخلنا البيت
الحرام الشريف الذي من دخله كان آمنا من باب بني شيبة، وشاهدنا
الكعبة الشريفة، زادها الله تعظيما، وهي كالعروس تجلى على منصة
الجلال، وترفل في برود الجمال، محفوفة بوفود الرحمن، موصلة إلى
جنة الرضوان. وطفنا بها طواف القدوم، واستلمنا الحجر الكريم،
وصلينا ركعتين بمقام إبراهيم، وتعلقنا بأسنار الكعبة عند
الملتزم بين الباب والحجر الأسود، حيث يستجاب الدعاء، وشربنا
من ماء زمزم، وهو لما شرب له حسبما ورد عن النبي صلى الله عليه
وسلم تسليما، ثم سعينا بين الصفا والمروة، ونزلنا هنالك بدار،
بمقربة من باب إبراهيم - والحمد لله الذي شرفنا بالوفادة على
هذا البيت الكريم، وجعلنا ممن بلغنا دعوة الخليل عليه السلام
والتسليم، ومتع أعيننا بمشاهدة الكعبة الشريفة والمسجد العظيم
والحجر الكريم وزمزم والحطيم.
ومن عجائب صنع الله تعالى أنه طبع القلوب على النزوع إلى هذه
المشاهد المنيفة، والشوق إلى المثول بمعاهدها الشريفة، وجعل
حبها متمكنا في القلوب، فلا يحلها أحد إلا أخذت يمجاميع قلبه،
ولا يفارقها إلا أسفا لفراقها، متولها لبعاده عنها، شديد
الحنين إليها، ناويا لتكرار الوفادة عليها، فأرضها المباركة
نصب الأعين، ومحبتها حشو القلوب. حمكة من الله بالغة، وتصديقا
لدعوة خليله عليه السلام.
صفحة : 59
والشوق يحضرها وهي نائية، ويمثلها وهي غائبة، ويهون على قاصدها
ما يلقاه من المشاق ويعانيه من العناء، وكم من ضعيف يرى الموت
عيانا دونها، ويشاهد التلف في طريقها. فإذا جمع الله بها شمله،
تلقاها مسرورا مستبشرا، كأنه لم يذق لها مرارة ولا كابد محنة
ولا نصبا. إنه لأمر إلهي، وصنع رباني، ودلالة لا يشوبها لبس،
ولا تغشاها شبهة، ولا يطرقها تمويه. وتعز في بصيرة المستبصرين،
وتبدو في فكرة المتفكرين - ومن رزقه الله تعالى الحلول بتلك
الأرجاء، والمثول بذلك الفناء، فقد أنعم الله عليه النعمة
الكبرى، وخوله خير الدارين: الدنيا والأخرى. فحق عليه أن يكثر
الشكر على ما خوله، ويديم الحمد على ما أولاه. جعلنا الله
تعالى ممن قبلت زيارته، وربحت في قصدها تجارته، وكتبت في سبيل
الله آثاره، ومحيت بالقبول أوزاره، بمنه وكره.
ذكر مدينة مكة المعظمة
وهي مدينة كبيرة متصلة البنيان مستطيلة، في بطن واد تحف به
الجبال، فلا يراها قاصدها حتى يصل إليها. وتلك الجبال الملطة
عليها ليست بمفرطة الشموخ. والأخشبان من جبالها هما جبل أبي
قبيس، وهو في جهة الجنوب والشرق منها، وجبل قعيقعان، وهو في
جهة الغرب منها، وفي الشمال منها الجبل الأحمر. ومن جهة أبي
قبيس أجياد الأكبر، وأجياد الأصغر، وهما شعبان والخندمة، وهي
جبل، وستذكر. والمناسك كلها: منى وعرفة والمزدلفة بشرقي مكة
شرفها الله. ولمكة من الأبواب ثلاثة: باب المعلى بأعلاها، وباب
الشبيكة من أسفلها، ويعرف أيضا بباب العمرة، وهو إلى جهة
المغرب، وعليه طريق المدينة الشريفة، ومصر والشام وجدة. ومنه
يتوجه إلى التنعيم، وسيذكر ذلك،وباب المسفل، وهو من جهة
الجنوب، ومنه دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم فتح مكة
شرفها الله، كما أخبر الله في كتابه العزيز حاكيا عن نبيه
الخليل بواد غير ذي زرع. ولكن سبقت لها الدعوة المباركة، فكل
طرفة تجلب إليها، وثمرات كل شيء تجبى لها. ولقد أكلت بها من
الفواكه العنب والتين والخوخ والرطب ما لا نظير له في الدنيا،
وكذلك البطيخ المجلوب إليها لا يماثله سواه طيبا وحلاوة،
واللحوم بها سمان لذيذات الطعوم. وكل ما يفترق في البلاد من
السلع، فيها اجتماعه. وتجلب لها الفواكه والخضر من الطائف
ووادي نخلة وبطن مر، لطفا من الله بسكان حرمه الأمين ومجاوري
بيته العتيق.
ذكر
المسجد الحرام شرفه الله وكرمه
والمسجد الحرام في وسط البلد. وهو متسع الساحة. طوله من شرق
إلى غرب أزيد من أربعمائة ذراع، حكى ذلك الأزرقي، وعرضه يقرب
من ذلك. والكعبة العظمى في وسطه. ومنظره بديع. ومرآه جميل. لا
يتعاطى اللسان وصف بدائعه، ولا يحيط الواصف بحسن كماله.
وارتفاع حيطانه نحو عشرين ذراعا؛ وسقفه على أعمدة طوال مصطفة
ثلاثة صفوف، بأتقن صناعة وأجملها. وقد انتظمت بلاطاته الثلاثة
انتظاما عجيبا كأنها بلاط واحد وعدد سواريه الرخامية أربعمائة
وإحدى وتسعون سارية ما عدا الجصية التي في دار الندرة المزيدة
في الحرم، وهي داخلة في البلاط الآخذ في الشمال. ويقابلها
المقام مع الركن العراقي. وفضاؤها متصل، يدخل من هذا البلاط
إليه، ويتصل بجدار هذا البلاط مساطب تحت قسي حنايا يجلس بها
المقرئون والنساخون والخياطون. وفي جدار البلاط الذي يقابله
مساطب تماثلها. وسائر البلاطات تحت جدرانها مساطب بدون حنايا.
وعند باب إبراهيم مدخل من البلاط الغربي فيه سواري جصية.
وللخليفة المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور رضي الله عنهما
آثار كريمة في توسيع المسجد الحرام وإحكام بنائه. وفي أعلى
جدار البلاط الغربي مكتوب أمر عبد الله محمد المهدي أمير
المؤمنين أصلحه الله بتوسعة المسجد الحرام لحاج بيت الله
وعمارته في سنة سبع وستين ومائة.
ذكر الكعبة المعظمة الشريفة زادها الله تعظيما وتكريما
صفحة : 60
والكعبة مائلة في وسط المسجد، وهي بنية مربعة ارتفاعها في
الهواء من الجهات الثلاث ثمان وعشرون ذراعا، ومن الجهة الرابعة
التي بين الحجر الأسود والركن اليماني تسع وعشرون ذراعا، وعرض
صفحتها التي من الركن العراقي إلى الحجر الأسود أربعة وخمسون
شبرا وكذلك عرض الصفحة التي تقابلها من الركن اليماني إلى
الركن الشامي، وعرض صفحتها التي من الركن العراقي إلى الركن
الشامي من داخل الحجر ثمانية وأربعون شبرا، وكذلك عرض الصفحة
التي تقابلها من الركن الشامي إلى الركن العراقي، وأما خارج
الحجر فإنه مائة وعشرون شبرا والطواف إنما هو خارج الحجر
وبناؤها بالحجر الصم السمر، وقد ألصقت بأبدع الإلصاق وأحكمه
وأشده، فلا تغيرها الأيام، ولا تؤثر فيها الأزمان وباب الكعبة
المعظمة في الصفح الذي بين الحجر الأسود والركن العراقي، وبينه
وبين الحجر الأسود عشرة أشبار، وذلك الموضع هو المسمى
بالملتزم، حيث يستجاب الدعاء. وارتفاع الباب عن الأرض أحد عشر
شبرا ونصف شبر وسعته ثمانية أشبار، وطوله ثلاثة عشر شبرا وعرض
الحائط الذي ينطوي عليه خمسة أشبار، وهو مصفح بصفائح الفضة،
بديع الصنعة وعضادتاه وعتبته العليا مصفحات بالفضة، وله
نقارتان كبيرتان من فضة عليهما قفل، ويفتح الباب الكريم في كل
يوم جمعة بعد الصلاة، ويفتح في يوم مولد النبي صلى الله عليه
وسلم ورسمهم في فتحة أنم يضعوا كرسيا شبه المنبر، له درج
وقوائم خشب، لها أربع بكرات يجري الكرسي عليها، ويلصقونه إلى
جدار الكعبة الشريفة، فيكون درجه الأعلى متصلا بالعتبة
الكريمة، ثم يصعد كبير الشيبين وبيده المفتاح الكريم ومعه
السدنة، فيمسكون الستر المسبل على باب الكعبة المسمى بالبرقع،
بخلال ما يفتح رئيسهم الباب، فإذا فتحه قبل العتبة الشريفة،
ودخل البيت وحده، وسد الباب، وأقام قدر ما يركع ركعتين، ثم
يدخل سائر الشيبين، ويسدون الباب أيضا، ويركعون، ثم يفتح
الباب، ويبادر الناس بالدخول، وفي أثناء ذلك يقفون مستقبلين
الباب الكريم بأبصار خاشعة وقلوب ضارعة وأيد مبسوطة إلى الله،
فإذا فتح كبروا ونادوا: اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك يا
أرحم الراحمين وداخل الكعبة الشريفة مفروش بالرخام المجزع،
وحيطانه كذلك وله أعمدة ثلاثة طوال مفرطة الطول من خشب الساج،
بين كل عمود منها وبين ألاخر أربع خطا وهي متوسطة في الفضاء
داخل الكعبة الشريفة، يقابل الأوسط منها نصف عرض الصفح الذي
بين الركنين العراقي والشامي وستور الكعبة الشريفة من الحرير
الأسود، مكتوب فيها بالأبيض، وهي تلألأ عليها نورا وإشراقا،
وتكسو جميعها من الأعلى إلى الأرض. ومن عجائب الآيات في الكعبة
الشريفة أن بابها يفتح، والحرم غاص بأمم لا يحصيها إلا الله
الذي خلقهم ورزقهم، فيدخلونها أجمعين ولا تضيق عنهم، ومن
عجائبها أنها لا تخلو عن طائف أبدا ليلا ولا نهارا، ولم يذكر
أحد أنه رآها قط دون طائف. ومن عجائبها أن حمام مكة وسواه من
الطير، لا ينزل عليها ولا يعلوها في الطيران وتجد الحمام يطير
على أعلى الحرم كله فإذا حاذى الكعبة الشريفة عرج عنها إلى
إحدى الجهات ولم يعلها ويقال لا ينزل عليها طائر إلا إذا كان
به مرض فإما أن يموت لحينه أو يبرأ من مرضه فسبحان االذي خصها
بالتشريف والتكريم وجعل لها المهابة والتعظيم.
ذكر الميزاب المبارك والميزاب في اعلى الصفح الذي على الحجر،
وهو من الذهب، وسعته شبر واحد، وهو بارز بمقدار ذراعين.
والموضع الذي تحت الميزاب مظنة استجابة الدعاء. وتحت الميزاب
في الحجر هو قبر إسيماعيل عليه السلام، وعليه رخامة خضراء
مستطيلة على شكل محراب، متصلة برخامة خضراء مستديرة، وكلتاهما
سعتها مقدار شبر، وكلتاهما غريبة الشكل رائقة المنظر. وإلى
جانبه مما يلي الركن العراقي قبر أمه هاجر عليها السلام،
وعلامته رخامة خضراء مستديرة سعتها مقدار شبر ونصف وبين
القبرين سبعة أشبار.
ذكر الحجر الأسود
صفحة : 61
وأما الحجر الأسود فارتفاعه عن الأرض ستة أشبار فالطويل من
الناس يتطامن لتقبيله، والصغير يتطاول إليه وهو ملصق في الركن
الذي إلى جهة المشرق، وسعته ثلثا شبر، وطوله شبر وعقد، ولا
يعلم قدر ما دخل منه في الركن وفيه أربع قطع ملصقة ويقال: إن
القرمطي لعنه الله كسره وقيل: إن الذي كسره سواه، ضربه بدبوس
فكسره، وتبادر الناس إلى قتله وقتل بسببه جماعة من المغاربة.
وجوانب الحجر مشدودة بصفيحة من فضة، يلوح بياضها على سواد
الحجر الكريم، فتنجلي منه العيون حسنا باهرا، ولتقبيله لذة
يتنعم بها الفم، ويود لاثمه أن لا يفارق لثمه، خاصية مودعة
فيه، وعناية ربانية به وكفى قول النبي صلى الله عليه وسلم إنه
يمين الله في أرضه ، نفعنا الله باستلامه ومصافحته، وأوفد عليه
كل شيق إليه. وفي القطعة الصحيحة من الحجر الأسود، مما يلي
جانبه الموالي ليمين مستلمه، نقطة بيضاء صغيرة مشرقة، كأنها
خال في تلك الصحيفة البهية وترى الناس إذا طافوا بها يتساقط
بعضهم على بعض ازدحاما على تقبيله فقلما يتمكن أحد من ذلك إلا
بعد المزاحمة الشديدة، وكذلك يصنعون عند دخول الحرم، ومن عند
الحجر الأسود ابتداء الطواف وهو أول الأركان التي يلقاها
الطائف، فإذا استلمه تقهقر عنه قليلا وجعل الكعبة الشريفة عن
يساره، ومضى في طوافه، ثم يلقى بعده الركن العراقي، وهو إلى
جهة الشمال، ثم يلقى الركن الشامي، وهو إلى جهة الغرب، ثم يلقى
الركن اليماني، وهو إلى جهة الجنوب، ثم يعود إلى الحجر الأسود،
وهو إلى جهة الشرق.
ذكر المقام الكريم إعلم أن بين باب الكعبة شرفها الله وبين
الركن العراقي موضعا طوله اثنا عشر شبرا وعرضه نحو النصف من
ذلك، وارتفاعه نحو شبرين وهو موضع المقام في مدة إبراهيم عليه
السلام ثم صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو
الآن مصلى، وبقي ذلك الموضع شبه الحوض، وإليه ينصب ماء البيت
الحرام إذ غسل، وهو موضع مبارك يزدحم الناس للصلاة فيه. وموضع
المقام الشريف يقابل ما بين الركن العراقي والباب الشريف، وهو
إلى الباب أميل، وعليه قبة تحتها اشباك حديد، متجاف عن المقام
الشريف قدر ما تصل أصابع الإنسان إذا أدخل يده من ذلك الشباك
إلى الصندوق، والشباك مقفل ومن ورائه موضع محوز قد جعل مصلى
لركعتي الطواف. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما دخل المسجد أتى البيت فطاف به سبعا، ثم أتى المقام فقرأ:
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وركع خلفه ركعتين وخلف المقام
مصلى إمام الشافعية في الحطيم الذي هنالك.
ذكر الحجر والمطاف ودور جدار الحجر تسع وعشرون خطوة، وهي
أربعة وتسعون شبرا من داخل الدائرة، وهو بالرخام البديع المجزع
المحكم الإلصاق، وارتفاعه خمسة أشبار ونصف شبر، وسعته أربعة
أشبار ونصف شبر. وداخل الحجر بلاط واسع مفروش بالرخام المنظم
المعجز الصنعة البديع الإتقان. وبين جدار الكعبة الشريفة الذي
تحت الميزاب وبين ما يقابله من جدار الحجر على خط استواء
أربعون شبرا، وللحجر مدخلان أحدهما بينه وبين الركن العراقي،
وسعته ستة أذرع، وهذا الموضع هو الذي تركته قريش من البيت حين
بنته، كما جاءت الآثار الصحاح، والمدخل الآخر عند الركن
الشامي، وسعته أيضا ستة أذرع وبين المدخلين ثمانية وأبعون شبرا
وموضع الطواف مفروش بالحجارة السود محكمة الإلصاق، وقد اتسعت
عن البيت بمقدار تسع خطا إلا في الجهة التي تقابل المقام
الشريف، فإنها امتدت إليه حتى أحاطت به وسائر الحرم مع
البلاطات مفروش برمل أبيض وطواف النساء في آخر الحجارة
المفروشة.
ذكر زمزم
صفحة : 62
وقبة بئر زمزم تقابل الحجر الأسود وبينهما أربع وعشرون خطوة
والمقام الشريف عن يمين القبة. ومن ركنها إليه عشر خطا. وداخل
القبة مفروش بالرخام الأبيض، وتنور البئر المباركة في وسط
القبة، مائلا إلى الجدار المقابل للكعبة الشريفة. وهو من
الرخام البديع الإلصاق مفروغ بالرصاص. ودوره أربعون شبرا،
وارتفاعه أربعة أشبار ونصف شبر، وعمق البئر إحدى عشرة قامة وهم
يذكرون أن ماءها يتزايد في كل ليلة جمعة وباب القبة إلى جهة
الشرق وقد استدارات بداخل سقاية سعتها شبر، وعمقها مثل لك،
وارتفاعها عن الأرض نحو خمسة أشبار، تملأ ماء للوضوء، وحولها
مسطبة يقعد الناس عليها للوضوء ويلي قبة زمزم قبة الشراب
المنسوبة إلى العباس رضي الله عنه، وبابها إلى جهة الشمال. وهي
الآن يجعل بها ماء زمزم في قلال يسمونها الدوارق، وكل دورق له
مقبض واحد وتترك بها ليبرد فيها الماء، فيشربه الناس وبها
اختزان المصاحف الشريفة، والكتب التي للحرم الشريف وبها خزان
تحتوي على تابوت مبسوط متسع، فيه مصحف كريم بخط زيد بن ثابت
رضي الله عنه، منتسخ سنة ثماني عشرة من وفاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم تسليما. وأهل مكة إذا أصابهم قحط أو شدة أخرجوا
هذا المصحف الشريف، وفتحوا باب الكعبة، ووضعوه على العتبة
الشريفة، ووضعوه في مقام إبراهيم عليه وسلم، واجتمع الناس
كاشفين رؤوسهم، داعين متضرعين متوسلين بالمصحف العزيز والمقام
الشريف، فلا ينفصلون إلا وقد تداركهم الله برحمته، وتغمدهم
بلطفه. ويلي قبة العباس رضي الله تعالى عنه على انحراف منها
القبة المعروفة بقبة اليهودية.
ذكر أبواب المسجد الحرام وما دار به من المشاهد الشريفة
وأبواب المسجد الحرام شرفه الله تعالى تسعة عشر بابا، وأكثرها
مفتحة على أبواب كثيرة، فمنها باب الصفا، وهو مفتح على خمسة
أبواب، وكان قديما يعرف بباب بني مخزوم، وهو أكبر أبواب
المسجد، ومنه يخرج إلى المسعى، ويستحب للوافد على مكة أن يدخل
المسجد الحرام شرفه الله من باب بني شيبة، ويخرج بعد طوافه من
باب الصفا جاعلا طريقه بين الأسطوانتين اللتين اقامهما أمير
المؤمنين المهدي رحمه الله، علما على طريق رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى الصفا، ومنها باب أجياد الأصغر مفتح على بابين
ومنها باب الخياطين مفتح على بابين ومنها باب العباس رضي الله
عنه مفتح على ثلاثة أبواب، ومنها باب النبي صلى الله عليه وسلم
مفتح على بابين، ومنها باب بني شيبة، وهو في ركن الجدار الشرقي
من جهة الشمال، أمام باب الكعبة الشريفة متياسرا، وهو مفتح على
ثلاثة أبواب، وهو باب بني عبد شمس، ومنه كان دخول الخلفاء،
ومنها باب صغير إزاء باب بني شيبة لا اسم له، وقيل: يسمى باب
الرباط، لأنه يدخل منه لرباط السدرة، ومنها باب الندوة ويسمى
بذلك ثلاثة أبواب: اثنان منتظمان، والثالث في الركن الغربي من
دار الندوة، ودار الندوة قد جعلت مسجدا شارعا في الحرم مضافا
إليه، وهي تقابل الميزاب، ومنها باب صغير لدار العجلة محدث،
ومنها باب السدرة واحد، وباب العمرة واحد، وهو من أجمل أبواب
الحرم، وباب إبراهيم واحد، والناس مختلفون في نسبته، فبعضهم
ينسبه إلى إبراهيم الخليل عليه السلام، والصحيح أنه منسوب إلى
إبراهيم الخوزي من الأعاجم، وباب الحزورة مفتح على بابين، وباب
ثالث ينسب إليه مفتح على بابين، ويتصل لباب الصفا ومن الناس من
ينسب البابين من هذه الأربعة المنسوبة لأجياد إلى الدقاقين.
صفحة : 63
وصوامع المسجد الحرام خمس: إحداهن على ركن أبي قبيس عند باب
الصفا، والأخرى على ركن باب بني شيبة، والثالثة على باب دار
الندوة، والرابعة على ركن باب السدرة، والخامسة على ركن أجياد.
وبمقربة من باب العمرة مدرسة عمرها السلطان المعظم يوسف بن
رسول ملك اليمن المعروف بالملك المظفر التي تنسب إليه الدراهم
المظفرية باليمن، وهو كان يكسو الكعبة، إلى أن غلبه على ذلك
الملك المنصور قلاوون - وبخارج باب إبراهيم زاوية كبيرة فيها
دار إمام المالكية الصالح أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن
المدعو بخليل وعلى باب إبراهيم قبة عظيمة مفرطة السمو، قد صنع
في داخلها من غرائب صنع الجص ما يعجز عنه الوصف. وبإزاء هذا
الباب عن يمين الداخل إليه كان يقعد الشيخ العابد جلال الدين
محمد بن أحمد الأفشهري، وخارج باب إبراهيم بئر تنسب كنسبته،
وعنده أيضا دار الشيخ الصالح دانيال العجمي الذي كانت صدقات
العراق في أيام السلطان أبي سعيد تأتي على يديه. وبمقربة منه
رباط الموفق، وهو من أحسن الرباطات، سكنته أيام مجاورتي بمكة
المعظمة. وكان به في ذلك العهد الشيخ الصالح الطيار سعادة
الجراني، ودخل يوما إلى بيته بعد صلاة العصر فوجد ساجدا مستقبل
الكعبة الشريفة ميتا من غير مرض كان به رضي الله عنه وسكن به
الشيخ الصالح شمس الدين محمد الشامي نحوا من أربعين سنة. وسكن
به الشيخ الصالح شعيب المغربي من كبار الصالحين دخلت عليه يوما
فلم يقع بصري في بيته على شيء سوى حصير فقلت له في ذلك فقال
لي: أستر على ما رأيت.
وحول الحرم الشريف دور كثيرة لها مناظر وسطوح يخرج منها إلى
سطح الحرم، وأهلها في مشاهدة البيت الشريف على الدوام، ودور
لها أبواب تفضي إلى الحرم، منها دار زبيدة زوجة الرشيد أمير
المؤمنين، ومنها دار العجلة، ودار الشرابي وسواها. ومن المشاهد
المقدسة بمقربة من المسجد الحرام قبة الوحي وهي في دار خديجة
أم المؤمنين رضي الله عنها بمقربة من باب الرسول صلى الله عليه
وسلم وفي البيت قبة صغيرة حيث ولدت فاطمة عليها السلام،
وبمقربة منها دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويقابلها جدار
مبارك فيه حجر مبارك بارز، طرفه من الحائط يستلمه الناس ويقال:
إنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر ان النبي صلى
الله عليه وسلم سأل عن رجل فنطق ذلك الحجر، وقال: يا رسول الله
إنه ليس بحاضر.
ذكر الصفا والمروة ومن باب الصفا الذي هو من أبواب المسجد
الحرام إلى الصفا ست وسبعون خطوة، وسعة الصفا سبع عشرة خطوة،
وله اربع عشرة درجة علياهن كأنها مسطبة، وبين الصفا والمروة
أربعمائة وثلاث وتسعون خطوة، منها من الصفا إلى الميل الأخضر
ثلاث وتسعون خطوة، ومن الميل الأخضر إلى الميلين الأخضرين خمس
وسبعون خطوة، ومن الميلين الأخضرين إلى المروة ثلاثمائة وخمس
وعشرون خطوة. وللمروة خمس درجات، وهي ذات قوس واحد كبير وسعة
المروة سبع عشرة خطوة. والميل الأخضر هو سارية خضراء مثبتة مع
ركن الصومعة التي على الركن الشرقي من الحرم عن يسار الساعي
إلى المروة، والميلان الأخضران هما ساريتان خضراوان إزاء باب
علي من أبواب الحرم، أحدهما في جدار الحرم عن يسار الخارج من
الباب، والأخرى تقابلها، وبين الميل الأخضر والميلين الأخضرين
يكون الرمل ذاهبا وعائدا، وبين الصفا والمروة مسيل فيه سوق
عظيمة، يباع فيها الحبوب واللحم والتمر والسمن وسواها من
الفواكه. والساعون بين الصفا والمروة لا يكادون يخلصون لازدحام
الناس على حوانيت الباعة، وليس بمكة سوق منتظمة سوى هذه إلا
البزازون والعطارون عند باب شيبة وبين الصفا والمروة دار
العباس رضي الله عنه. وهي الآن رباط يقطنه المجاورون عمره
الملك الناصر رحمه الله، وبنى أيضا دار وضوء فيما بين الصفا
والمروة سنة ثمان وعشرين، وجعل لها بابين أحدهما في السوق
المذكور والآخر في العطارين. وعليها ربع يسكنه خدامها، وتولى
بناء ذلك الأمير علاء الدين بن هلال، وعن يمين المروة دار أمير
مكة سيف الدين عطيفة بن أبي نمي وسنذكره.
ذكر الجبانة المباركة وجبانة مكة خارجة باب المعلى، ويعرف ذلك
الموضع بالحجون وإياه عنى الحارث ابن مضاض الجرهمي
بقوله:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس
ولم يسمر بمـكة سـامـر
صفحة : 64
بلى نحن كنا أهلهـا فـأبـادنـا صروف
الليالي والجدود العواثر
وبهذه
الجبانة مدفن الجم الغفير من الصحابة والتابعين والعلماء
والصالحين والأولياء، إلا أن مشاهدهم دثرت، وذهب عن أهل مكة
علمها فلا يعرف منها إلا القليل، فمن المعروف منها قبر أم
المرمنين، ووزير سيد المرسلين خديجة بنت خويلد أم أولاد النبي
صلى الله عليه وسلم، كلهم ما عدا إبراهيم، وجدة السبطين
الكريمين صلوات الله وسلامه على النبي صلى الله عليه وسلم
وعليهم أجمعين. وبمقربة منه قبر الخليفة أمير المؤمنين أبي
جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس
رضي الله عنهم أجمعين، وفيها الموضع الذي صلب فيه عبد الله بن
الزبير رضي الله عنهما. وكان به بنية هدمها أهل الطائف غيرة
منهم لما كان يلحق حجاجهم المبير ، من اللعن وعن يمين مستقبل
الجبانة مسجد خراب، يقال إنه المسجد الذي بايعت الجن فيه رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الجبانة طريق الصاعد إلى
عرفات وطريق الذاهب إلى الطائف وإلى العراق.
ذكر بعض المشاهد خارج مكة
فمنها الحجون وقد ذكرناه، ويقال أيضا: إن الحجون هو الجبل
المطل على الجبانة ومنها المحصب، وهو أيضا الأبطح، وهو يلي
الجبانة المذكورة، وفيه خيف بني كنانة الذي نزل به رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ومنها ذو الطوى وهو واد يهبط على قبور
المهاجرين التي بالحصحاص دون ثنية كداء، ويخرج منه إلى الأعلام
الموضوعة حجزا بين الحل والحرام. وكان عبد الله بن عمر رضي
الله عنه إذا قدم مكة شرفها الله تعالى يبيت بذي طوى ثم يعتسل
منه ويغدو إلى مكة، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل
ذلك. ومنها ثنية كدي بضم الكاف ، وهي بأعلى مكة، ومنها دخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلى مكة. ومنها
ثنية كداء بفتح الكاف ، ويقال لها الثنية البيضاء، وهي بأسفل
مكة، ومنها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الوداع، وهي
بين جبيلين. وفي مضيقها كوم حجارة موضوع على الطريق، وكل من
يمر به يرجمه بحجر. ويقال: إنه قبر أبي لهب وزوجه حمالة الحطب.
وبين هذه الثنية وبين مكة بسيط سهل ينزله الركب إذا صدروا عن
منى، وبمقربة من هذا الموضع على نحو ميل من مكة شرفها الله
مسجد بإزائه حجر موضوع على الطريق كأنه مصطبة يعلوه حجر آخر،
كان فيه نقش فدثر رسمه. يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قعد
بذلك الموضع مستريحا عند مجيئه من عمرته. فيتبرك الناس بتقبيله
ويستندون إليه. ومنها التنعيم، وهو على فرسخ من مكة، ومنه
يعتمر أهل مكة، وهو أدنى الحل إلى الحرام، ومنه اعتمرت أم
المرمنين عائشة رضي الله عنها حين بعثها رسول الله صلى الله
عليه وسلم في حجة الوداع مع أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه،
وأمره أن يعمرها من التنعيم. وبنيت هنالك مساجد ثلاثة على
الطريق تنسب كلها إلى عائشة رضي الله عنها. وطريق التنعيم طريق
فسيح، والناس يتحرون كنسه في كل يوم رغبة في الأجر والثواب.
لأن من المعتمرين من يمشي فيه حافيا. وفي هذا الطريق الآبار
العذبة التي تسمى الشبيكة، ومنها الزاهر، وهو على نحو ميلين من
مكة، على طريق التنعيم، وهو موضع على جانبي الطريق فيه أثر دور
وبساتين وأسواق.
وعلى جانب الطريق دكان مستطيل تصف عليه كيزان الشرب وأواني
الوضوء، يملأها خديم ذلك الموضع من آبار الزاهر، وهي بعيدة
القعر جدا. والخديم من الفقراء المجاورين وأهل الخير يعينونه
على ذلك لما فيه من المرفقة للمعتمرين من الغسل والشرب
والوضوء، وذو طوى يتصل بالزاهر.
ذكر الجبال المطيفة بمكة
صفحة : 65
فمنها جبل أبي قبيس وهو في جهة الجنوب والشسرق من مكة حرسها
الله، وهو أحد الأخشبين، وأدنى الجبال من مكة شرفها الله،
ويقابل ركن الحجر الأسود. وبأعلاه مسجد وأثر رباط وعمارة. وكان
الملك الظاهر رحمه الله أراد أن يعمره. وهو مطل على الحرم
الشريف، وعلى جميع البلد. ومنه يظهر حسن مكة شرفها الله وجمال
الحرم واتساعه والكعبة المعظمة. ويذكر أن جبل أبي قبيس هو أول
جبل خلقه الله، وفيه استودع الحجر زمان الطوفان. وكانت قريش
تسمية الأمين لأنه أدى الحجر الذي استودع فيه إلى الخليل
إبراهيم عليه السلام. ويقال: إن قبر آدم عليه السلام به. وفي
جبل أبي قبيس موضع موقف النبي صلى الله عليه وسلم حين انشق له
القمر. ومنها قعيقان، وهو أحد الأخشبين، ومنها الجبل الأحمر،
وهو في جهة الشمال من مكة شرفها الله، ومنها الخندمة وهو جبل
عند الشعبين المعروفين بأجياد الأكبر وأجياد الأصغر، ومنها جبل
الطير وهو على أربعة عن جهتي طريق التنعيم، يقال إنها الجبال
التي وضع عليها الخليل عليه السلام أجزاء الطير ثم دعاها حسبما
نص الله في كتابه العزيز، عليه أعلام من حجارة، ومنها جبل حراء،
وهو في الشمال من مكة شرفها الله تعالى على نحو فرسخ منها، وهو
مشرف على منى، ذاهب في الهواء عالي القنة. وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتعبد فيه كثيرا قبل المبعث، وفيه أتاه الحق من
ربه وبدأ الوحي، وهو الذي اهتز تحت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: إثبت فما عليك إلا نبي وصديق
وشهيد ، واختلف فيكمن كان معه يومئذ. وروي أن العشرة كانوا
معه.
وقد روي أيضا أن جبل ثبير اهتز تحته أيضا، ومنها جبل ثور، وهو
على قدر فرسخ من مكة شرفها الله تعالى على طريق اليمن، وفيه
الغار الذي أوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خروجه
مهاجرا من مكة شرفها الله، ومعه الصديق رضي الله عنه، حسبما
ورد في الكتاب العزيز. ذكر الأزرقي في كتابه: أن الجبل المذكور
نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إلي يا محمد إلي إلي،
فقد أويت قبلك سبعين نبيا. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم الغار واطمأن به وصاحبه الصديق معه، نسجت العنكبوت من
حينها على باب الغار، وصنعت الحمامة عشا وفرخت فيه بإذن الله
تعالى، فانتهى المشركون ومعهم قصاص الأثر إلى الغار، فقالوا ها
هنا انقطع الأثر ورأوا العنكبوت قد نسج على فم الغار والحمام
مفرخة، فقالوا: ما دخل أحد هنا، وانصرفوا. فقال الصديق: يا
رسول الله لو لجوا علينا منه، قال: كنا نخرج من هنا. وأشار
بيده المباركة إلى الجانب الآخر ولم يكن فيه باب فانفتح فيه
باب بقدرة الملك الوهاب .
والناس يقصدون زيارة هذا الغار المبارك، فيرومون دخوله من
الباب الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم تبركا بذلك.
فمنهم من يتأتى له، ومنهم من لا يتأتى له وينشب فيه، حتى
يتناول بالجذب العنيف، ومن الناس من يصلي أمامه ولا يدخله.
وأهل تلك البلاد يقولون: إنه من كان لرشده دخله، ومن كان لزينة
لم يقدر على دخوله. ولهذا يتحاماه كثير من الناس لأنه مخجل
فاضح. قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخنا الحجاج الأكياس أن سبب
صعوبة الدخول إليه هو أن بداخله مما يلي هذا الشق الذي يدخل
منه حجرا كبيرا معترضا. فمن دخل من ذلك الشق منبطحا على وجهه
وصل راسه إلى ذلك الحجر، فلم يمكنه التولج، ولا يمكنه أن ينطوي
إلى العلو، ووجهه وصدره يليان الأرض. فذلك هو الذي ينشب ولا
يخلص إلا بعد الجهد والجذب إلى خارج ومن دخل منه مستلقيا على
ظهره أمكنه، لأنه إذا وصل رأسه إلى الحجر المعترض رفع رأسه،
واستوى قاعدا، فكان ظهره مستندا إلى الحجر المعترض وأوسطه في
الشق ورجلاه من خارج الغار ثم يقوم قائما بداخل الغار.
حكاية
صفحة : 66
ومما اتفق بهذا الجبل لصاحبين من أصحابي: أحدهما الفقيه المكرم
أبو محمد عبد الله بن فرحان الأفريقي التوزري، والآخر أبو
العباس أحمد الأندلسي الوادي آشي، أنهما قصدا الغار في حين
مجاورتهما بمكة شرفها الله تعالى في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة،
وذهبا منفردين، لم يستصحبا دليلا عارفا بطريقه؛ فتاها. وضلا
طريق الغار وسلكا طريقا سواها منقطعة، وذلك في أوان اشتداد
الحر وحمى القيظ، فلما نفد ما كان عندهما من الماء، وهما لم
يصلا إلى الغار، أخذا في الرجوع إلى مكة شرفها الله تعالى،
فوجدا طريقا فاتبعاه وكان يفضي إلى جبل آخر، واشتد بهما الحر،
وأجهدهما العطش، وعاينا الهلاك، وعجز الفقيه أبو محمد عبد الله
بن فرحان عن المشي جملة، والقى بنفسه إلى الأرض، ونجا الأندلسي
بنفسه. وكان فيه فضل قوة، ولم يزل يسلك تلك الجبال حتى أفضى به
الطريق إلى أجياد، فدخل إلى مكة شرفها الله تعالى، وقصدني،
واعلمني بهذه الحادثة وبما كان من أمر عبد الله التورزي
وانقطاعه في الجبل، وكان في ذلك في آخر النهار. ولعبد الله
المذكور ابن عم اسمه حسن، وهو من سكان وادي نخلة، وكان إذ ذاك
بمكة، فأعلمته بما جرى على ابن عمه، وقصدت الشيخ الصالح الإمام
أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بخليل إمام ألمالكية
نفع الله به، فأعلمته بخبره، فبعث بجماعة من أهل مكة عارفين
بتلك الجبال والشعاب في طلبه، وكان من أمر عبد الله التوزري
أنه لما فارقه رفيقه، لجأ إلى حجر كبير، فاستظل بظله، وأقام
على هذه الحالة من الجهد والعطش، والغربان تطير فوق رأسه،
وتنتظر موته. فلما انصرم النهار، واتى الليل، وجد في نفسه قوة
وأنعشه برد الليل، فقام عند الصباح على قدميه ونزل من الجبل
إلى بطن واد حجبت الجبال عنه الشمس، فلم يزل ماشيا إلى أن بدأت
له دابة فقصد قصدها، فوجد خيمة للعرب. فلما رآها وقع إلى الأرض
ولم يستطع النهوض، فرأته صاحبة الخيمة، وكان زوجها قد ذهب إلى
ورد الماء فسقته ما كان عندها من الماء فلم يرو، وجاء زوجها
فسقاه قربة ماء فلم يرو، وأركبه حمارا له، وقدم به مكة فوصلها
عند صلاة العصر من الثاني متغيرا كأنه قام من قبر.
ذكر أميري مكة
وكانت إمارة مكة في عهد دخولي إليها للشريفين الأجلين
الأخوين: أسد الدين رميثة وسيف الدين عطيفة أبني الأمير أبي
نمي بن أبي سعد بن علي بن قتادة الحسنيين. ورميثة أكبرهما سنا،
ولكنه كان يقدم اسم عطيفة في الدعاء له بمكة، لعدله ولرميثة من
الأولاد أحمد وعجلان، وهو أمير مكة في هذا العهد، وتقيه وسند
وأم قاسم. ولعطيفة من الأولاد محمد ومبارك ومسعود. ودار عطيفة
عن يمين المروة، ودار أخيه رميثة برباط الشرابي عند باب بني
شيبة، وتضرب الطبول على باب كل واحد منهما عند صلاة المغرب من
كل يوم.
ذكر أهل مكة وفضائلهم
صفحة : 67
ولأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة
والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء. ومن
مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بإطعام الفقراء
المنقطعين المجاورين، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق، ثم
يطعمهم. وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران، حيث يطبخ
الناس أخبازهم. فإذا طبخ أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله فيتبعه
المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له، ولا يردهم خائبين،
ولو كانت له خبزة واحدة فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طيب النفس
بذلك من غير ضجر. ومن أفعالهم الحسنة أن الأيتام الصغار يقعدون
بالسوق، ومع كل واحد منهم قفتان: كبرى وصغرى وهم يسمون القفة
مكتلا فيأتي الرجل من أهل مكة إلى السوق، فيشتري الحبوب واللحم
والخضر، ويعطي ذلك الصبي فيجعل الحبوب في إحدى قفتيه، واللحم
والخضر في الأخرى، ويوصل ذلك إلى دار الرجل ليهيأ له طعامه
منها، ويذهب الرجل إلى طوافه وحاجته، فلا يذكر أن أحدا من
الصبيان خان الأمانة في ذلك قط، بل يؤدي ما حمل على ما أتم
الوجوه. ولهم على ذلك أجرة معلومة من فلوس. وأهل مكة لهم ظرف
ونظافة في الملابس وأكثر لباسهم البياض فترى ثيابهم أبدا ناصعة
ساطعة. ويستعملون الطيب كثيرا ويكتحلون ويكثرون السواك بعيدان
الأراك الأخضر. ونساء مكة فائقات الحسن بارعات الجمال ذوات
صلاح وعفاف. وهن يكثرن التطيب، حتى إن إحداهن لتبيت طاوية
وتشتري بقوتها طيبا. وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة،
فيأتين في أحسن زي وتغلب على الحرم رائحة طيبهن، وتذهب المرأة
منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقا. ولأهل مكة عوائد حسنة
وغيره سنذكرها إن شاء الله تعالى إذا فرغنا من ذكر فضائلها
ومجاوريها.
ذكر قاضي مكة وخطيبها
وإمام الموسم وعلمائها وصلحائها
قاضي مكة العالم الصالح العابد نجم الدين محمد بن إمام العالم
محيي الدين الطبري، وهو فاضل كثير الصدقات والمواساة
للمجاورين، حسن الأخلاق كثير الطواف والمشاهدة للكعبة الشريفة،
يطعم الطعام الكثير في المواسم المعظمة، وخصوصا في مولد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يطعم فيه شرفاء مكة وكبراءها
وفقراءها وخدام الحرم الشريف وجميع المجاورين. وكان سلطان مصر
الملك الناصر رحمه الله يعظمه كثيرا، وجميع صدقاته وصدقات
أمرائه تجرى على يديه. وولده شهاب الدين فاضل، وهو الآن قاضي
مكة شرفها الله. وخطيب مكة الإمام بمقام إبراهيم عليه السلام
الفصيح المصقع وحيد عصره بهاء الدين الطبري، وهو أحد الخطباء
الذين ليس بالمعمورة مثلهم بلاغة وحسن بيان. وذكر لي أنه ينشئ
لكل جمعة خطبة ثم لا يكررها فيما بعد. وإمام الموسم وإمام
المالكية بالحرم الشريف هو الشيخ الفقيه العالم الصالح الخاشع
الشهير أبو عبد الله محمد ابن الفقيه الإمام الصالح الورع أبي
زيد عبد الرحمن، وهو المشتهر بخليل نفع الله به وأمتع ببقائه.
وأهله من بلاد الجريد من إفريقية، ويعرفون بها ببني حيون من
كبارها، ومولده ومولد أبيه بمكة شرفها الله، وهو أحد الكبار من
أهل مكة، بل واحدها وقطبها بإجماع الطوائف على ذلك. مستغرق
العبادة في جميع أوقاته، حيي كريم النفس حسن الأخلاق كثير
الشفقة، لا يرد من سأله خائبا.
حكاية مباركة
صفحة : 68
رأيت أيام مجاورتي بمكة شرفها الله، وأنا إذ ذاك ساكن منها
بالمدرسة المظفرية، والنبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وهو
قاعد بمجلس التدريس في المدرسة المذكورة بجانب الشباك الذي
تشاهد منه الكعبة الشريفة، والناس يبايعونه، فكنت أرى الشيخ
أبا عبد الله المدعو بخليل قد دخل وقعد القرفصاء بين يدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يده في يد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وقال: أبايعك على كذا وكذا، وعدد أشياء منها، وأن
لا أرد من بيتي مسكينا خائبا، وكان ذلك آخر كلامه، فكنت أعجب
من قوله، وأقول في نفسي كيف يقول هذا ويقدر عليه، مع كثرة
فقراء مكة واليمن والزيالعة والعراق والعجم ومصر والشام. وكنت
أراه حين ذلك لابسا جبة بيضاء قصيرة من ثياب القطن المدعوة
بالقفطان. كان يلبسها في بعض الأوقات، فلما صليت الصبح غدوت
عليه وأعلمته برؤياي فسر بها وبكى، وقال لي تلك الجبة أهداها
بعض الصالحين لجدي، فأنا ألبسها تبركا. وما رأيته بعد ذلك يرد
سائلا خائبا. وكان يأمر خدامه يخبزون الخبز ويطبخون الطعام
ويأتون به إلي بعد صلاة العصر من كل يوم. وأهل مكة لا يأكلون
في اليوم إلا مرة واحدة بعد العصر، ويقتصرون عليها إلى مثل ذلك
الوقت. ومن أراد الأكل في سائر النهار أكل التمر. ولذلك صحت
أبدانهم، وقلت فيهم الأمراض والعاهات. وكان الشيخ خليل متزوجا
بنت القاضي نجم الدين الطبري، فشك في طلاقها وفارقها. وتزوجها
بعده الفقيه شهاب الدين النويري من كبار المجاورين، وهو من
صعيد مصر. وأقامت عنده أعواما وسافر بها إلى المدينة الشريفة
ومعها أخوها شهاب الدين فحنث في يمين بالطلاق، ففارقها على
ضنانته بها، وراجعها الفقيه خليل بعد سنين عدة. ومن أعلام مكة
إمام الشافعية شهاب الدين بن البرهان، ومنهم إمام الحنفية شهاب
الدين أحمد بن علي من كبار أئمة مكة وفضلائها، يطعم المجاورين
وأبناء السبيل. وهو أكرم فقهاء مكة. ويدان في كل سنة أربعين
ألف درهم وخمسين ألفا، فيؤديها الله عنه. وأمراء الأتراك
يعظمونه ويحسنون الظن به، لأنه إمامهم. ومنهم إمام الحنابلة
المحدث الفاضل محمد بن عثمان البغدادي الأصل المكي المولد. وهو
نائب القاضي نجم الدين، والمحتسب بعد قتل تقي الدين المصري،
والناس يهابونه لسطوته.
حكاية كان تقي الدين المصري محتسبا بمكة، وكان له دخول فيما
يعنيه وفيما لا يعنيه. فاتفق في بعض السنين أن أتى أمير الحاج
بصبي من ذوي الدعارة بمكة قد سرق بعض الحجاج. فأمر بقطع يده
فقال له تقي الدين: إن لم تقطعها بحضرتك، وإلا غلب أهل مكة
خدامك عليه. فاستنقذوه منهم وخلصوه، فأمر بقطع يده في حضرته
فقطعت. وحقدها لتقي الدين. ولم يزل يتربص به الدوائر، ولا قدرة
له عليه لأن له حسبا من الأميرين رميثة وعطيفة والحسب عندهم أن
يعطي أحدهم هدية من عمامة أو شاشية بمحضر الناس تكون جوارا لمن
أعطيته، ولا تزول حرمتها، معه حتى يريد الرحلة والتحول عن مكة.
فأقام تقي الدين بمكة أعواما، ثم عزم على الرحلة، وودع
الأميرين، وطاف طواف الوداع، وخرج من باب الصفا. فلقيه صاحبه
الأقطع وتشكى له ضعف حاله، وطلب منه ما يستعين به على حاجته.
فانتهره تقي الدين وزجره، فاستل خنجرا له يعرف عندهم بالجنبية،
وضربه ضربة واحدة كان فيها حتفه. ومنهم الفقيه الصالح زين
الدين الطبري، شقيق نجم الدين المذكور من أهل الفضل والإحسان
للمجاورين ومنهم الفقيه المبارك محمد بن فهد القرشي، من فضلاء
مكة. وكان ينوب عن القاضي نجم الدين بعد وفاة الفقيه محمد بن
عثمان الحنبلي، ومنهم العدل الصالح محمد بن البرهان زاهد ورع
مبتلى بالوسواس. رأيته يوما يتوضأ من بركة المدرسة المظفرية،
فيغسل ويكرر، ولما مسح رأسه أعاد مسحه مرات، ثم لم يقنعه ذلك
فغطس رأسه في البركة. وكان إذا أراد الصلاة ربما صلى الإمام
الشافعي، وهو يقول: نويت نويت، فيصلي من غيره وكان كثير الطواف
والاعتمار والذكر.
ذكر المجاورين بمكة
صفحة : 69
فمنهم الإمام العالم الصالح الصوفي المحقق العابد عفيف الدين
عبد الله بن أسعد اليمني الشافعي الشهير باليافعي، كثير الطواف
آناء الليل وأطراف النهار وكان إذا طاف من الليل يصعد إلى سطح
المدرسة المظفرية فيقعد مشاهدا للكعبة الشريفة، إلى أن يغلبه
النوم فيجعل تحت رأسه حجرا، أو ينام يسيرا، ثم يجدد الوضوء
ويعود لحاله من الطواف حتى يصلي الصبح. وكان متزوجا ببنت
الفقيه العابد شهاب الدين بن برهان، وكانت صغيرة السن. فلا
تزال تشكو إلى أبيها حالها فيأمرها بالصبر، فأقامت معه على ذلك
سنين ثم فارقته. ومنهم الصالح العابد نجم الدين الأصفوني. كان
قاضيا ببلاد الصعيد فانقطع إلى الله تعالى، وجاور بالحرم
الشريف. وكان يعتمر في كل يوم من التنعيم، ويعتمر في رمضان:
مرتين في اليوم اعتمادا على ما في الخبر عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: عمرة في رمضان تعدل حجة معي . ومنهم
الشيخ الصالح العابد شمس الدين محمد الحلبي، كثير الطواف
والتلاوة من قدماء المجاورين، توفي بمكة، ومنهم الصالح أبو بكر
الشيرازي المعروف بالصامت، كثير الطواف، أقام بمكة أعواما لا
يتكلم فيها. ومنهم الصالح خضر العجمي، كثير الصوم والتلاوة
والطواف. والشيخ الصالح برهان الدين العجمي الواعظ، كان ينصب
له كرسي تجاه الكعبة الشريفة فيعظ الناس ويذكرهم بلسان فصيح
وقلب خاشع يأخذ بمجامع القلوب. والصالح المجود برهان الدين
إبراهيم المصري مقرىء مجيد ساكن رباط السدرة، ويقصده أهل مصر
والشام بصدقاتهم، ويعلم الأيتام كتاب الله تعالى، ويقوم بمؤنهم
ويكسوهم. والصالح العابد عز الدين الواسطي من أصحاب الأموال
الطائلة، يحمل إليه من بلده المال الكثير في كل سنة، فيبتاع
الحبوب والتمر، ويفرقها على الضعفاء والمساكين، ويتولى حملها
إلى بيوتهم بنفسه، ولم يزل ذلك دأبه إلى أن توفي. والفقيه
الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن رزق الله الأنجري من أهل قطر
طنجة من كبار الصالحين جاور بمكة سنين وبها وفاته. كانت بينه
وبين والدي صحبة قديمة. ومتى أتى إلى بلدنا طنجة نزل عندنا.
وكان له بيت بالمدرسة المظفرية يعلم العلم فيها نهارا ويأوي
بالليل إلى مسكنه برباط ربيع، وهو من أحسن الرباطات بمكة،
بداخله بئر عذبة لا تماثلها بئر بمكة، وسكانها الصالحون وأهل
ديار الحجاز يعظمون هذا الرباط تعظيما شديدا وينذرون له
النذور، وأهل الطائف يأتونه بالفواكه. ومن عاداتهم أن كل من له
بستان من النخيل والعنب والفرسك وهو الخوخ والتين وهو يسمونه
الخمط يخرج منه العشر لهذا الرباط. ويوصلون ذلك إليه على
جمالهم ومسيرة ما بين مكة والطائف يومان. ومن لم يف بذلك نقصت
فواكهه في السنة الآتية وأصابتها الجوائح.
حكاية في فضيلة أتي يوما غلمان الأمير أبي نمي صاحب مكة إلى
هذا الرباط ودخلوا بخيل الأمير وسقوها من تلك البئر، فلما
عادوا بالخيل إلى مرابطها أصابتها الأوجاع وضربت بأنفسها الأرض
برؤوسها وأرجلها. واتصل الخبر بالأمير أبي نمي، فأتى باب
الرباط بنفسه، واعتذر إلى المساكين الساكنين به، واستصحب واحدا
منهم فمسح على بطون الدواب بيده فأراقت ما كان في أجوافها من
ذلك الماء وبرئت مما أصابها، ولم يتعرضوا بعدها للرباط إلا
بالخير. ومنهم الصالح المبارك أبو العباس الغماري من أصحاب أبي
الحسن بن رزق الله. وسكن رباط ربيع، ووفاته بمكة. ومنهم الصالح
أبو يعقوب يوسف بن بادية سبتة، كان خديما للشيخين المذكورين،
فلما توفيا صار شيخ الرباط بعدهما. ومنهم الصالح السابح السالك
أبو الحسن علي بن فرغوس التلمساني. ومنهم الشيخ سعيد الهندي
شيخ رباط كلالة.
حكاية
صفحة : 70
كان الشيخ سعيد قد قصد ملك الهند محمد شاه، فأعطاه مالا عظيما
قدم به مكة. فسجنه الأمير عطيفة، وطلبه بأداء المال، فامتنع
فعذب بعصر رجليه، فأعطى خمسة وعشرين ألف درهم نقرة، وعاد إلى
بلاد الهند. ورأيته بها، ونزل بدار الأمير سيف الدين غدا ابن
هبة الله بن عيسى بن مهنا أمير عرب الشام. وكان غدا ساكنا
ببلاد الهند متزوجا بأخت ملكها، وسيذكر أمره. فأعطى ملك الهند
للشيخ سعيد جملة مال، وتوجه صحبة حاج يعرف بوشل من ناس الأمير
غدا، وجهه الأمير المذكور ليأتيه ببعض ناسه، ووجه معه أموالا
وتحفا منها الخلعة التي خلعها عليه ملك الهند ليلة زفافه
بأخته، وهي من الحرير الأزرق مزركشة بالذهب، ومرصعة بالجوهر،
بحيث لا يظهر لونها لغلبة الجوهر عليها، وبعث معها خمسين ألف
درهم ليشتري له الخيل العتاق. فسافر الشيخ سعيد صحبة وشل،
واشتريا سلعا بما عندهما من الأموال. فلما وصلا جزيرة سقطرة
المنسوب إليها الصبر السقطري، خرج عليهما لصوص الهند في مراكب
كثيرة فقاتلوهم قتالا شديدا، مات فيه من الفريقين جملة. وكان
وشل راميا فقتل منهم جماعة، ثم تغلب السراق عليهم وطعنوا وشلا
طعنة مات منها بعد ذلك. وأخذوا ما كان عندهم، وتركوا لهم
مركبهم بآلة سفره وزاده. فذهبوا إلى عدن، ومات بها وشل. وعادة
هؤلاء السراق أنهم لا يقتلون أحدا إلا حين القتال ولا يغرقونه،
وإنما يأخذون ماله وبتركونه يذهب بمركبه حيث شاء. ولا يأخذون
المماليك لأنهم من جنسهم. وكان الحاج سعيد قد سمع من ملك الهند
أنه يريد إظهار الدعوة العباسية ببلده، كمثل ما فعله ملوك
الهند ممن تقدمه، مثل السلطان شمس الدين للمش واسمه بفتح
اللام الأولى وإسكان الثانية وكسر الميم وشين معجم ، وولده
ناصر الدين. ومثل السلطان جلال الدين فيروز شاه، والسلطان غياث
الدين بلين. وكانت الخلع تأتي إليهم من بغداد. فلما توفي وشل
قصد الشيخ سعيد إلى الخليفة أبي العباس ابن الخليفة أبي الربيع
سليمان العباسي بمصر، وأعلمه بالأمر. فكتب له كتابا بخطه
بالنيابة عنه ببلاد الهند. فاستصحب الشيخ سعيد الكتاب وذهب إلى
اليمن واشترى بها ثلاث خلع سودا، وركب البحر إلى الهند. فلما
وصل كنبايت، وهي على مسيرة أربعين يوما من دهلي حاضرة ملك
الهند، كتب صاحب الخبر إلى الملك يعلمه بقدوم الشيخ سعيد، وأن
معه أمر الخليفة وكتابه. فورد الأمر ببعثه إلى الحضرة مكرما.
فلما قرب من الحضرة بعث الأمراء والقضاة والفقهاء لتلقيه، ثم
خرج هو بنفسه لتلقيه. فتلقاه وعانقه ودفع له الأمر، فقبله
ووضعه على رأسه، ودفع له الصندوق الذي فيه الخلع فاحتمله الملك
على كاهله خطوات ولبس إحدى الخلع وكسا الأخرى الأمير غياث
الدين محمد بن عبد القادر بن يوسف بن عبد العزيز ابن الخليفة
المنتصر العباسي، وكان مقيما عنده، وسيذكر خبره.
صفحة : 71
وكسا الخلعة الثالثة الأمير قبوله الملقب بالملك الكبير، وهو
الذي يقوم على رأسه ويشرد عنه الذباب. وأمر السلطان فخلع على
الشيخ سعيد ومن معه، وأركبه على الفيل، ودخل المدينة كذلك،
والسلطان أمامه على فرسه، وعن يمينه وشماله الأميران اللذان
كساهما الخلعتين العباسيتين. والمدينة قد زينت بأنواع الزينة
وصنع بها إحدى عشرة قبة من الخشب. كل قبة منها أربع طبقات، في
كل طبقة طائفة من المغنين رجالا ونساء، والراقصات، وكلهم
مماليك السلطان. والقبة مزينة بثياب الحرير المذهب أعلاها
وأسفلها وداخلها وخارجها، وفي وسطها ثلاثة أحواض من جلود
الجواميس مملوءة ماء قد حل فيه الجلاب، يشربه كل وارد وصادر،
لا يمنع منه أحد. وكل من يشرب منه يعطى بعد ذلك خمس عشرة ورقة
من أوراق التنبول والفوفل والنورة، فيأكلها فتطيب نكهته وتزيد
في حمرة وجهه ولثاته وتقمع عنه الصفراء وتهضم ما أكل من
الطعام. ولما ركب الشيخ سعيد على الفيل فرشت له ثياب الحرير
بين يدي الفيل يطأ عليها الفيل من باب المدينة إلى دار
السلطان. وأنزل بدار تقرب من دار الملك. وبعث له أموالا طائلة.
وجميع الأثواب المعلقة المفروشة بالقباب والموضوعة بين يدي
الفيل لا تعود إلى السلطان بل يأخذها أهل الطرب وأهل الصناعات
الذين يصنعون القباب، وخدام الأحواض وغيرهم. وهكذا فعلهم من
قدم السلطان من سفر. وأمر الملك بكتاب الخليفة أن يقرأ على
المنبر بين الخطبتين في كل يوم جمعة، وأقام الشيخ سعيدا شهرا
ثم بعث معه الملك هدايا إلى الخليفة. فوصل كنبايت، وأقام بها
حتى تيسرت أسباب حركته في البحر. وكان ملك الهند قد بعث أيضا
من عنده رسولا إلى الخليفة وهو الشيخ رجب البرقعي، أحد شيوخ
الصوفية، وأصله من مدينة القرم من صحراء قفجق، وبعث معه هدايا
للخليفة منها حجر ياقوت قيمته خمسون ألف دينار. وكتب له يطلب
منه أن يعقد له النيابة عنه ببلاد الهند والسند، ويبعث له سواه
من يظهر. هكذا نص عليه كتابه اعتقادا منه في الخلافة وحسن نية.
وكان للشيخ رجب أخ بديار مصر يدعى بالأمير سيف الدين الكاشف.
فلما وصل رجب إلى الخليفة أبى أن يقرأ الكتاب ويقبل الهدية إلا
بمحضر الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر. فأشار سيف الدين
على أخيه رجب ببيع الحجر فباعه واشترى بثمنه، وهو ثلاثمائة ألف
درهم، أربعة أحجار. وحضر بين يدي الملك الصالح، ودفع له
الكتاب، وأحد الأحجار، ودفع سائرها لأمرائه. واتفقوا على أن
يكتب لملك الهند بما طلب.
فوجهوا الشهود إلى الخليفة وأشهد على نفسه أنه قدمه نائبا عنه
ببلاد الهند وما يليها، وبعث الملك الصالح رسولا من قبله، وهو
شيخ الشيوخ بمصر ركن الدين العجمي، ومعه الشيخ رجب وجماعة من
الصوفية، وركبوا بحر فارس من الأبلة إلى هرمز، وسلطانها يومئذ
قطب الدين تمتهن طوران شاه. فأكرم مثواهم، وجهز لهم مركبا إلى
بلاد الهند فوصلوا مدينة كنبايت والشيخ سعيد بها وأميرها يومئذ
مقبول التلتكي، أحد خواص ملك الهند فاجتمع الشيخ رجب بهذا
الأمير وقال له أن الشيخ سعيد إنما جاءكم بالتزوير. والخلع
التي ساقها إنما اشتراها بعدن، فينبغي أن تثقفوه وتبعثوه إلى
خوند عالم وهو السلطان. فقال له الأمير: الشيخ سعيد معظم عند
السلطان فما يفعل به هذا إلا بأمره. ولكني أبعثه معك ليرى فيه
السلطان رأيه. وكتب الأمير بذلك كله إلى السلطان، وكتب به أيضا
صاحب الأخبار فوقع في نفس السلطان تغير، وانقبض عن الشيخ رجب
لكونه تكلم بذلك على رؤوس الأشهاد، بعد ما صدر من السلطان
للشيخ سعيد من الإكرام ما صدر، فمنع رجب من الدخول عليه، وزاد
إكرام الشيخ سعيد، ولما دخل شيخ الشيوخ على السلطان قام إليه
وعانقه وأكرمه وكان متى دخل عليه يقوم إليه. وبقي الشيخ سعيد
المذكور بأرض الهند معظما مكرما. وبها تركته سنة ثمان وأربعين.
وكان بمكة أيام مجاورتي بها حسن المغربي المجنون، وأمره غريب
وشأنه عجيب. وكان قبل ذلك صحيح العقل خديما لولي الله تعالى
نجم الدين الأصبهاني أيام حياته.
حكاية
صفحة : 72
كان حسن المجنون كثير الطواف بالليل، وكان يرى في طوافه بالليل
فقيرا، يكثر الطواف، ولا يراه بالنهار. فلقيه ذلك الفقير ليلة،
وسأله عن حاله، وقال يا حسن: إن أمك تبكي عليك، وهي مشتاقة إلى
رؤيتك، وكانت من إماء الله الصالحات، أفتحب أن تراها قال له:
نعم، ولكني لا قدرة لي على ذلك. فقال له: نجتمع ها هنا في
الليلة المقبلة إن شاء الله تعالى - فلما كانت الليلة المقبلة،
وهي ليلة الجمعة، وجده حيث واعده - فطافا بالبيت ما شاء الله،
ثم خرج، وهو في أثره، إلى باب المعلى. فأمره أن يسد عينيه
ويمسك بثوبه ففعل ذلك. ثم قال: بعد ساعة: أتعرف بلدك ? قال
نعم. قال: ها هو هذا. ففتح عينيه، فإذا به على دار أمه، فدخل
عليها، ولم يعلمها بشيء مما جرى، وأقام عندها نصف شهر، وأظن أن
بلده مدينة أسفي . ثم خرج إلى الجبانة، فوجد الفقير صاحبه،
فقال له: كيف أنت ? فقال: يا سيدي، إني اشتقت إلى رؤية الشيخ
نجم الدين؛ وكنت خرجت على عادتي، وغبت عنه هذه الأيام، وأحب أن
تردني إليه. فقال له: نعم، وواعده الجبانة ليلا. فلما وافاه
بها، أمره أن يفعل كفعله في مكة شرفها الله، من تغميض عينيه
والإمساك بذيله ففعل ذلك، فإذا به في مكة شرفها الله. وأوصاه
أن لا يحدث نجم الدين بشيء مما جرى، ولا يحدث به غيره فلما دخل
على نجم الدين، قال له: أين كنت يا حسن في غيبتك ? فأبى أن
يخبره. فعزم عليه، فأخبره بالحكاية. فقال: أرني الرجل، فأتي
معه ليلا، وأتى الرجل على عادته. فلما مر بهما قال له: يا سيدي
هو هذا. فسمعه الرجل فضربه بيده على فمه وقال اسكت اسكتك الله.
فخرس لسانه، وذهب عقله، وبقي بالحرم مولها يطوف بالليل والنهار
من غير وضوء ولا صلاة، والناس يتبركون به ويكسونه، وإذا جاع
خرج إلى السوق التي بين الصفا والمروة، فيقصد حانوتا من
الحوانيت، فيأكل منها ما أحب، لا يصده أحد ولا يمنعه بل يسر كل
من أكل له شيئا، وتظهر له البركة والنماء في بيعه وربحه. ومتى
أتى السوق تطاول أهلها بأعناقهم إليه، كل منهم يحرص على أن
يأكل من عنده، لما جربوه من بركته. كذلك فعله مع السقائين، متى
أحب أن يشرب. ولم يزل دأبه كذلك إلى سنة ثمان وعشرين، فحج فيها
الأمير سيف الدين يلملك، فاستصحبه معه إلى ديار مصر، فانقطع
خبره نفع الله تعالى به.
ذكر عادة أهل مكة في صلواتهم ومواضع أئمتهم
فمن عاداتهم أن يصلي أول الأئمة إمام الشافعية، وهو المقدم من
قبل أولي الأمر. وصلاته خلف المقام الكريم، مقام إبراهيم
الخليل عليه السلام في حطيم له هنالك بديع. وجمهور الناس بمكة
على مذهبه. والحطيم خشبتان موصول ما بينها بأذرع شبه السلم،
تقابلهما خشبتان على صفتهما، وقد عقدت على أرجل مجصصة، وعرض
على أعلى الخشب خشبة أخرى فيها خطاطيف حديد يعلق فيها قناديل
زجاج. فإذا صلى الإمام الشافعي صلى بعده إمام المالكية في
محراب قبالة الركن اليماني، ويصلي إمام الحنبلية معه في وقت
واحد مقابلا ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، ثم يصلي إمام
الحنفية قبال الميزاب المكرم تحت حطيم له هنالك، ويوضع بين يدي
الأئمة في محاربيهم الشمع. وترتيبهم هكذا في الصلوات الأربع،
وأما صلاة المغرب فإنهم يصلونها في وقت واحد، كل إمام يصلي
بطائفته، ويدخل على الناس من ذلك سهو تخليط، فربما ركع المالكي
بركوع الشافعي وسجد الحنفي بسجود الحنبلي. وتراهم مصيخين كل
واحد إلى صوت المؤذن الذي يسمع طائفته لئلا يدخل عليه السهو.
ذكر عاداتهم في الخطبة وصلاة الجمعة
صفحة : 73
وعادتهم في يوم الجمعة أن يلصق المنبر المبارك إلى صفح الكعبة
الشريفة، فيما بين الحجر الأسود والركن العراقي، ويكون الخطيب
مستقبلا المقام الكريم. فإذا خرج الخطيب، أقبل لابسا ثوب سواد،
معتما بعمامة سوداء، وعليه طيلسان أسود. كل ذلك من كسوة الملك
الناصر. وعليه الوقار والسكينة، وهو يتهادى بين رايتين
سوداوين، يمسكهما رجلان من المؤذنين، وبين يديه أحد القومه، في
يده الفرقعة، وهي عود في طرفه جلد رقيق مفتول، ينفضه في الهواء
فيسمع له صوت عال يسمعه من بداخل الحرم وخارجه، فيكون إعلاما
بخروج الخطيب. ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر فيقبل
الحجر الأسود ويدعو عنده، ثم يقصد المنبر، والمؤذن الزمزمي،
وهو رئيس المؤذنين بين يديه، لابسا السواد وعلى عاتقه السيف
ممسكا له بيده، وتركز الرايتان عن جانبي المنبر. فإذا صعد أول
درج من درج المنبر قلده المؤذن السيف، فيضرب بنصل السيف ضربة
في الدرج يسمع بها الحاضرين، ثم يضرب في الدرج الثاني ضربة، ثم
في الثالث أخرى.فإذا استوى في عليا الدرجات ضرب ضربة رابعة،
ووقف داعيا بدعاء خفي، مستقبل الكعبة. ثم يقبل على الناس فيسلم
عن يمينه وشماله، ويرد عليه الناس، ثم يقعد. ويؤذن المؤذنون في
أعلى قبة زمزم في حين واحد. فإذا فرغ الأذان، خطب الخطيب خطبة
يكثر بها من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول في
أثنائها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما طاف بهذا البيت
طائف، ويشير بأصبعه إلى البيت الكريم: اللهم صل على محمد وآل
محمد ما وقف بعرفة واقف. ويترضى عن الخلفاء الأربعة وعن سائر
الصحابة وعن النبي صلى الله عليه وسلم وسبطيه وأمهما وخديجة
جدتهما، على جميعهم السلام. ثم يدعو للملك الناصر، ثم للسلطان
المجاهد نور الدين علي ابن الملك المؤيد داود ابن الملك المظفر
يوسف بن علي بن رسول، ثم للسيدين الشريفين الحسنيين أميري مكة.
سيف الدين عطيفة، وهو أصغر الأخوين، ويقدم اسمه لعدله، وأسد
الدين رميثة، ابني أبي نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة. وقد
دعا لسلطان العراق مرة، ثم قطع ذلك. فلما فرغ من خطبته وانصرف،
والرايتان عن يمينه وشماله والفرقعة أمامه إشعارا بانقضاء
الصلاة، ثم يعاد المنبر إلى مكانه الكريم.
ذكر عاداتهم في استهلال الشهور
وعادتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر، وقواده
يحفون به، وهو لابس البياض معتم متقلد سيفا وعليه السكينة
والوقار، فيصلي عند المقام الكبير ركعتين، ثم يقبل الحجر،
ويسرع في طواف اسبوع . ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم. فعند
ما يكمل الأمير شوطا واحدا. ويقصد الحجر لتقبيله، يندفع رئيس
المؤذنين بالدعاء له، والتهنئة بدخول الشهر، رافعا بذلك صوته،
ثم يذكر شعرا في مدحه ومدح سلفه الكريم. ويفعل به هكذا في
السبعة أشواط. فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين، ثم ركع
خلف المقام أيضا ركعتين، ثم انصرف. ومثل هذا سواء يفعل إذا
أراد سفرا وإذا قدم من سفر أيضا.
ذكر عادتهم في شهر رجب
وإذا هل هلال رجب أمر أمير مكة بضرب الطبول والبوقات اشعارا
بدخول الشهر، ثم يخرج في أول يوم منه راكبا. ومعه أهل مكة
فرسانا ورجالا، على ترتيب عجيب، وكلهم بالأسلحة، يلعبون بين
يديه، والفرسان يجولون ويجرون، والرجال يتواثبون ويرمون
بحرابهم إلى الهواء، ويلقفونها، والأمير رميثة والأمير عطيفة
معهما أولادهما وقوادهما مثل محمد بن إبراهيم، وعلي وأحمد ابني
صبيح، وعلي بن يوسف وشداد بن عمر وعامر الشرق ومنصور بن عمر
وموسى المزرق، وغيرهم من كبار أولاد الحسن ووجوه القواد. وبين
أيديهم الرايات والطبول والدبادب، وعليهم السكينة والوقار.
ويسيرون حتى ينتهوا إلى الميقات، ثم يأخذون في الرجوع على
معهود ترتيبهم إلى المسجد الحرام، فيطوف الأمير بالبيت،
والمؤذن الزمزمي بأعلى قبة زمزم يدعو له عند كل شوط، على ما
ذكرناه من عادته، فإذا طاف صلى ركعتين عند الملتزم، وصلى عند
المقام وتمسح به، وخرج إلى المسعى فسعى راكبا والقواد يحفون به،
والحرابة بين يديه، ثم يسير إلى منزله. وهذا اليوم عندهم عيد
من الأعياد يلبسون فيه أحسن الثياب ويتنافسون في ذلك.
ذكر عمرة رجب
صفحة : 74
وأهل مكة يحتفلون لعمرة رجب الاحتفال الذي لا يعهد مثله، وهي
متصلة ليلا نهارا. وأوقات الشهر كله معمورة بالعبادة، وخصوصا
أول يوم منه، ويوم خمسة عشر، والسابع والعشرين. فإنهم يستعدون
لها قبل ذلك بأيام. شاهدتهم في ليلة السابع والعشرين منه،
وشوارع مكة قد غصت بالهوادج عليها كساء الحرير والكتان الرفيع،
كل واحد يفعل بقدر استطاعته، والجمال مزينة مقلدة بقلائد
الحرير، وأستار الهوادج ضافية تكاد تمس الأرض فهي كالقباب
المضروبة. ويخرجون إلى ميقات التنعيم فتسيل أباطح مكة بتلك
الهوادج، والنيران مشعلة بجنبتي الطريق، والشمع والمشاعل أمام
الهوادج، والجبال تجيب بصداها إهلال المهللين، فترق النفوس،
وتنهمل الدموع، فإذا قضوا العمرة، وطافوا بالبيت، خرجوا إلى
السعي بين الصفا والمروة بعد مضي شيء من الليل، والمسعى متقد
السرج غاص بالناس، والساعيات على هوادجهن، والمسجد الحرام
يتلألأ نورا. وهم يسمون هذه العمرة بالعمرة الأكمية، لأنهم
يحرمون بها من أكمة مسجد عائشة رضي الله عنها بمقدار غلوة، على
مقربة من المسجد المنسوب إلى علي رضي الله عنه. والأصل في هذه
العمرة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما فرغ من بناء
الكعبة المقدسة خرج ماشيا حافيا معتمرا، ومعه أهل مكة وذلك في
اليوم السابع والعشرين من رجب، وانتهى إلى الأكمة فأحرم منها،
وجعل طريقه على ثنية الحجون إلى المعلى، من حيث دخل المسلمون
يوم الفتح. فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة إلى هذا العهد،
وكان عهد عبد الله مذكورا أهدى فيه بدنا كبيرة، وأهدى أشراف
مكة وأهل الاستطاعة منهم. وأقاموا أياما يطعمون ويطعمون شكرا
لله على ما وهبهم من التيسير والمعونة في بناء بيته الكريم،
على الصفة التي كانت عليها في أيام الخليل صلوات الله عليه. ثم
لما قتل ابن الزبير نقض الحجاج الكعبة، وردها إلى بنائها في
عهد قريش وكانوا قد اقتصروا في بنائها، وأبقاها رسول الله صلى
الله عليه وسلم على ذلك، لحدثان عهدهم بالكفر. ثم أراد الخليفة
أبو جعفر المنصور أن يعيدها إلى بناء ابن الزبير، فنهاه مالك
رحمه الله عن ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تجعل البيت
ملعبة للملوك، متى أراد أحدهم أن يغير فعل. فتركه على حاله سدا
للذريعة وأهل البلاد الموالية لمكة، مثل بجيله وزهران وغامد،
يبادرون لحضور عمرة رجب ويجلبون إلى مكة الحبوب والسمن والعسل
والزبيب والزيت واللوز، فترخص الأسعار بمكة ويرغد عيش أهلها
وتعمم المرافق، ولولا أهل هذه البلاد لكان أهل مكة في شظف من
العيش. ويذكر أنهم متى أقاموا ببلادهم، ولم يأتوا بهذه الميرة
أجدبت بلادهم ووقع الموت في مواشيهم. ومتى أوصلوا الميرة أخصبت
بلادهم وظهرت فيها البركة ونمت أموالهم. فهم إذا حان وقت
ميرتهم وأدركهم كسل عنها، اجتمعت نساؤهم فأخرجنهم. وهذا من
لطائف صنع الله تعالى وعنايته ببلده الأمين وبلاد السرو التي
يسكنها بجيله وزهران وغامد وسواهم من القبائل مخصبة كثيرة
الأعناب وافرة الغلات، وأهلها فصحاء الألسن، لهم صدق نية وحسن
اعتقاد. وهم إذا طافوا بالكعبة يتطارحون عليها، لائذين
بجوارها، متعلقين بأستارها، داعين بأدعية يتصدع لرقتها القلوب:
وتدمع العيون الجامدة، فترى الناس حولهم باسطي أيديهم مؤمنين
على أدعيتهم. ولا يتمكن لغيرهم الطواف معهم، ولا استلام الحجر،
لتزاحمهم على ذلك. وهم شجعان أنجاد، ولباسهم الجلود. وإذا
وردوا مكة هابت اعراب الطريق مقدمهم، وتجنبوا اعتراضهم، ومن
صحبهم من الزوار حمد صحبتهم. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم
ذكرهم، وأثنى عليهم خيرا وقال: علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء.
وكفاهم شرفا دخولهم في عموم قوله صلى الله عليه وسلم الإيمان
يمان والحكمة يمانية . وذكر أن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما كان يتحرى وقت طوافهم ويدخل في جملتهم تبركا بدعائهم.
وشأنهم عجيب كله، وقد جاء في أثر: زاحموهم في الطواف، فإن
الرحمة تنصب عليهم صبا.
ذكر عادتهم في ليلة النصف من شعبان
صفحة : 75
وهذه الليلة من الليالي المعظمة عند أهل مكة، يبادرون فيها إلى
أعمال البر من الطواف والصلاة جماعات وأفذاذا والاعتمار.
ويجتمعون في المسجد الحرام جماعة، لكل جماعة إمام. ويوقدون
السرج والمصابيح والمشاعل. ويقابل ذلك ضوء القمر فتتلألأ الأرض
والسماء نورا ويصلون مائة ركعة، يقرأون في كل ركعة بأم القرآن
وسورة الإخلاص، يكررونها عشرا وبعض الناس يصلون في الحجر
منفردين، وبعضهم يطوفون بالبيت الشريف، وبعضهم قد خرجوا
للاعتمار.
ذكر عادتهم في شهر رمضان المعظم
وإذا أهل هلال رمضان تضرب الطبول والدبادب عند أمير مكة. ويقع
الاحتفال بالمسجد الحرام، من تجديد الحصر، وتكثير الشمع
والمشاعل، حتى يتلألأ الحرم نورا، ويسطع بهجة وإشراقا. وتتفرق
الأئمة فرقا. وهم الشافعية والحنبلية والحنفية والزيدية، وأما
المالكية فيجتمعون على أربعة من القراء، يتناوبون القراءة
ويوقدون الشمع ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها
قارئ يصلي بجماعة، فيرتج المسجد لأصوات القراء، وترق النفوس
وتحضر القلوب وتهمل الأعين. ومن الناس من يقتصر على الطواف
والصلاة في الحجر منفردا. والشافعية أكثر الأئمة اجتهادا،
وعاداتهم أنهم إذا أكملوا التراويح المعتادة، وهي عشرون ركعة،
يطوف إمامهم وجماعته. فإذا فرغ من الأسبوع ضربت الفرقعة التي
ذكرنا أنها تكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة، كان ذلك إعلاما
بالعودة إلى الصلاة. ثم يصلي ركعتين، ثم يطوف أسبوعا هكذا إلى
أن يتم عشرين ركعة أخرى. ثم يصلون الشفع والوتر، وينصرفون.
وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئا. وإذا كان وقت السحور
يتولى المؤذن الزمزمي التسحير في الصومعة التي بالركن الشرقي
من الحرم، فيقوم داعيا ومذكرا ومحرضا على السحور، وهكذا يفعلون
في سائر الصوامع. فإذا تكلم أحد منهم أجابه صاحبه، وقد نصبت في
أعلى كل صومعة خشبة على رأسها عود معترض، قد علق فيه قنديلان
من الزجاج كبيران يوقدان، فإذا قرب الفجر وقع الإيذان بالقطع
مرة بعد مرة، وحط القنديلان، وابتدأ المؤذنون بالأذان. وأجاب
بعضهم بعضا. ولديار مكة شرفها الله سطوح. فمن بعدت داره بحيث
لا يسمع الأذان يبصر القنديلين المذكورين فيتسحر. حتى إذا لم
يبصرها أقلع عن الأكل. وفي ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من
رمضان يختمون القرآن ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء.
ويكون الذي يختم بها أحد أبناء كبراء أهل مكة. فإذا ختم، نصب
له منبر مزين بالحرير، وأوقد الشمع، وخطب. فإذا فرغ من خطبته
استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة
والحلاوات وكذلك يصنعون في جميع ليالي الوتر. واعظم من تلك
الليالي عندهم ليلة سبع وعشرين. واحتفالهم لها أعظم من
احتفالهم لسائر الليالي. ويختم بها القرآن العظيم خلف المقام
الكريم. وتقام إزاء حطيم الشافعية خشب عظام، توصل بالحطيم،
وتعرض بينها ألواح طوال، وتجعل ثلاث طبقات، وعليها الشمع
وقنديل الزجاج، فيكاد يغشى الأبصار شعاع الأنوار، ويتقدم
الإمام، فيصلي فريضة العشاء الآخرة، ثم يبتدئ قراءة سورة
القدر. وإليها يكون انتهاء قراءة الأئمة في الليلة التي قبلها
وفي تلك الساعة يمسك جميع الأئمة عن التراويح تعظيما لختمة
المقام، ويحضرونها متبركين، فيختم الإمام في تسليمتين، ثم يقوم
خطيبا مستقبل المقام، فإذا فرغ من ذلك عاد الأئمة إلى صلاتهم،
وانفض الجميع. ثم يكون الختم ليلة تسع وعشرين في المقام
المالكي في منظر مختصر وعن المباهاة منزه موقر فيختم ويخطب.
ذكر عادتهم في شوال
صفحة : 76
وعادتهم في شوال، وهو مفتتح أشهر الحج المعلومات، أن يوقدوا
المشاعل ليلة استهلاله، ويسرجون المصابيح والشمع، على نحو
فعلهم في ليلة سبع وعشرين من رمضان. وتوقد السرج في الصوامع من
جميع جهاتها، ويوقد سطح الحرم كله وسطح المسجد الذي بأعلى أبي
قبيس، ويقيم المؤذنون ليلتهم تلك في تهليل وتكبير وتسبيح،
والناس ما بين طواف وصلاة وذكر ودعاء فإذا صلوا صلاة الصبح
أخذوا في أهبة العيد، ولبسوا أحسن ثيابهم، وبادروا لأخذ
مجالسهم بالحرم الشريف، به يصلون صلاة العيد، لأنه لا موضع
أفضل منه. ويكون أول من يبكر إلى المسجد الشيبيون فيفتحون باب
الكعبة المقدسة، ويقعد كبيرهم في عتبتها، وسائرهم بين يديه،
إلى أن يأتي أمير مكة فيتلقونه، ويطوف بالبيت أسبوعا، والمؤذن
الزمزمي فوق سطح قبة زمزم على العادة، رافعا صوته بالثناء عليه
والدعاء له ولأخيه كما ذكر، ثم يأتي الخطيب بين الرايتين
السوداوين، والفرقعة أمامه، وهو لابس السواد، فيصلي خلف المقام
الكريم، ثم يصعد المنبر ويخطب خطبة بليغة. ثم إذا فرغ منها
أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام والمصافحة والاستغفار،
ويقصدون الكعبة الشريفة فيدخلونها أفواجا، ثم يخرجون إلى مقبرة
باب المعلى، تبركا بمن فيها من الصحابة وصدور السلف ثم
ينصرفون.
ذكر إحرام الكعبة
وفي اليوم السابع والعشرين من شهر ذي القعدة تشمر أستار
الكعبة، زادها الله تعظيما، إلى نحو ارتفاع قامة ونصف من
جهاتها الأربع صونا لها من الأيدي أن تنتهبها. ويسمون ذلك
إحرام الكعبة وهو يوم مشهود بالحرم الشريف. ولا تفتح الكعبة
المقدسة من ذلك اليوم حتى تنقضي الوقفة بعرفة.
ذكر شعائر الحج وأعماله
صفحة : 77
وإذا كان في أول يوم شهر ذي الحجة، تضرب الطبول والدبادب في
أوقات الصلوات بكرة وعشية، إشعارها بالموسم المبارك. ولا تزال
كذلك إلى يوم الصعود إلى عرفات. فإذا كان اليوم السابع من ذي
الحجة خطب الخطيب إثر صلاة الظهر خطبة بليغة، يعلم الناس فيها
مناسكهم، ويعلمهم بيوم الوقفة، فإذا كان اليوم الثاني بكر
الناس بالصعود إلى منى. وأمراء مصر والشام والعراق وأهل العلم
يبتيون تلك الليلة بمنى وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر
والشام والعراق في إيقاد الشمع. ولكن الفضل في ذلك لأهل الشام
دائما. فإذا كان اليوم التاسع رحلوا من منى بعد صلاة الصبح إلى
عرفة. فيمرون في طريقهم بوادي محسر، ويهرولون، وذلك سنة. ووادي
محسر هو الحد ما بين مزدلفة ومنى، ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح
بين جبلين، وحولها مصانع وصهاريج للماء، مما بنته زبيدة ابنة
جعفر بن أبي جعفر المنصور زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد.
وبين منى وعرفة خمسة أميال، وكذلك بين منى ومكة أيضا خمسة
أميال. ولعرفة ثلاثة أسماء وهي، عرفة وجمع والمشعر الحرام،
وعرفات بسيط من الأرض فسيح أفيح، تحدق به جبال كثيرة. وفي آخر
بسيط عرفات جبل الرحمة، وفيه الموقف، وفيما حوله، والعلمان
قبله بنحو ميل، وهما الحد ما بين الحل والحرم. وبمقربة منهما
مما يلي عرفة بطن عرنة الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بالارتفاع عنه، ويجب التحفظ منه، ويجب أيضا الإمساك عن النفور
حتى يتمكن سقوط الشمس. فإن الجمالين ربما استحثوا كثيرا من
الناس، وحذروهم الزحام في النفر، واستدرجوهم إلى أن يصلوا بهم
بطن عرنة، فيبطل حجهم. وجبل الرحمة الذي ذكرناه قائم وسط بسيط
جمع منقطع عن الجبال، وهو من حجارة منقطع بعضها عن بعض. وفي
أعلاه قبة تنسب إلى أم سلمة رضي الله عنهما، وفي وسطها مسجد
يتزاحم الناس للصلاة فيه، وحوله سطح فسيح يشرف على بسيط عرفات،
وفي قبليه جدار فيه محاريب منصوبة يصلي فيه الناس، وفي أسفل
هذا الجبل عن يسار المستقبل للكعبة دار عتيقة البناء تنسب إلى
آدم عليه السلام، وعن يسارها الصخرات التي كان موقفف النبي صلى
الله عليه وسلم عندها، وحول ذلك صهاريج وجبات للماء، وبمقربة
منه الموضع الذي يقف في الإمام ويخطب ويجمع بين الظهر والعصر،
وعن يسار العلمين للمستقبل أيضا وادي الأراك وبه أراك اخضر
يمتد في الأرض امتدادا طويلا، وإذا حان وقت النفر أشار الإمام
المالكي بيده، ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعة ترتج لها
الأرض، وترجف الجبال. فياله موقفا كريما ومشهدا عظيما ترجو
النفوس حسن عقباه، وتطمح الآمال إلى نفحات رحماه، وجعلنا الله
ممن خصه فيه برضاه. وكانت وقفتي الأولى يوم الخميس سنة ست
وعشرين، وأمير الركب المصري يومئذ أرغون الدوادار نائب الملك
الناصر. وحجت في تلك السنة ابنة الملك الناصر وهي زوجة أبي بكر
ابن أرغون المذكور.وحجت فيها زوجة الملك الناصر والمسماة
بالخونده، وهي بنت السلطان المعظم محمد أوزبك ملك السرا
وخوارزم، وأمير الركب الشامي سيف الدين الجوبان. ولما وقع
النفر بعد غروب الشمس، وصلنا مزدلفة عند العشاء الآخرة، فصلينا
بها المغرب والعشاء جمعا بينهما حسبما جرت سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ولما صلينا الصبح بمزدلفة غدونا منها إلى منى
بعد الوقوف والدعاء بالمشعر الحرام. ومزدلفة كلها موقف إلا
وادي محسر، ففيه تقع الهرولة حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب
أكثر الناس حصيات الجمار، وذلك مستحب. ومنهم من يلقطها حول
مسجد الخيف. والأمر في ذلك واسع. ولما انتهى الناس إلى منى
بادروا لرمي جمرة العقبة، ثم نحروا وذبحوا، ثم حلقوا وحلوا من
كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الافاضة ورمي هذه
الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر. لما رموها توجه أكثر
الناس بعد أن ذبحوا وحلقوا إلى طواف الإفاضة. ومنهم من أقام
إلى اليوم الثاني. وفي اليوم الثاني رمى الناس عند زوال الشمس
بالجمرة الأولى سبع حصيات، وبالوسطى كذلك، ووقفوا للدعاء
بهاتين الجمرتين اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان اليوم الثالث تعجل الناس الانحدار إلى مكة شرفها
الله، بعد أن كمل لهم رمي تسع وأربعين حصاة. وكثير منهم أقام
اليوم الثالث بعد يوم النحر حتى رمي سبعين حصاة.
ذكر كسوة الكعبة
صفحة : 78
وفي يوم النحر بعثت كسوة الكعبة الشريفة من الركب المصري إلى
البيت الكريم، فوضعت في سطحه، فلما كان اليوم الثالث بعد يوم
النحر أخذ الشيبيون في إسبالها على الكعبة الشريفة. وهي كسوة
سوداء حالكة من الحرير مبطنة بالكتان وفي أعلاها طراز مكتوب
فيه بالبياض جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما الآية. وفي
سائر جهاتها طراز مكتوب بالبياض فيها آيات من القرآن، وعليها
نور لائح مشرق من سوادها. ولما كيست شمرت أذيالها صونا من أيدي
الناس. والملك الناصر هو الذي يتولى كسوة الكعبة الكريمة،
ويبعث مرتبات القاضي والخطيب والأئمة والمؤذنين والفراشين
والقومة، وما يحتاج له الحرم الشريف من الشمع والزيت في كل
سنة. وفي هذه الأيام تفتح الكعبة الشريفة في كل يوم للعراقيين
والخراسانين وسواهم ممن يصل مع الركب العراقي، وهم يقيمون بمكة
بعد سفر الركبين الشامي والمصري أربعة أيام، فيكثرون فيها
الصدقات على المجاورين وغيرهم. ولقد شاهدتهم يطوفون بالحرم
ليلا، فمن لقوه في الحرم من المجاورين أو المكيين أعطوه الفضة
والثياب، وكذلك يعطون للمشاهدين الكعبة الشريفة، وربما وجدوا
إنسانا نائما فجعلوا في فيه الذهب والفضة حتى يفيق. ولما قدمت
معهم من العراق سنة ثمان وعشرين فعلوا من ذلك كثيرا، وأكثروا
الصدقة حتى رخص سوم الذهب بمكة، وانتهى صرف المثقال إلى ثمانية
عشر درهما نقرة، لكثرة ما تصدقوا به من الذهب. وفي هذه السنة
ذكر اسم السلطان أبي السعيد ملك العراق على المنبر وقبة زمزم.
ذكر الانفصال عن مكة شرفها الله تعالى
وفي الموفي عشرين لذي الحجة خرجت من مكة صحبة أمير ركب العراق
البهلوان محمد الحويح بحاءين مهملين، وهو من أهل الموصل. وكان
يلي إمارة الحاج بعد موت الشيخ شهاب الدين قلندر، وكان شهاب
الدين سخيا فاضلا عظيم الحرمة عند سلطانه، يحلق لحيته وحاجبيه
على طريقة القلندرية. ولما خرجت من مكة شرفها الله تعالى في
صحبة الأمير البهلوان المذكور اكترى لي شقة محارة إلى بغداد،
ودفع إجارتها من ماله، وأنزلني في جواره. وخرجنا بعد طواف
الوداع إلى بطن مر ، في جمع من العراقيين والخراسانيين
والفارسيين والأعاجم، لا يحصى عديدهم تموج بهم الأرض موجا،
ويسيرون سير السحاب المتراكم. فمن خرج عن الركب لحاجة، ولم تكن
له علامة يستدل بها على موضعه، ضل عنه لكثرة الناس. وفي هذا
الركب نواضح كثيرة لأبناء السبيل يستقون منها الماء، وجمال
لرفع الراد للصدقة ورفع الأدوية والأشربة والسكر لمن يصيبه
مرض. وإذا نزل الركب طبخ الطعام في قدور نحاس عظيمة تسمى
الدسوت، وأطعم منها أبناء السبيل ومن لا زاد معه. وفي الركب
جملة من الجمال يحمل عليها من لا قدرة له على المشي. كل ذلك من
صدقات السلطان أبي سعيد ومكارمه. قال ابن جزي: كرم الله هذه
الكنية الشريفة، فما أعجب أمرها في الكرم، وحسبك بمولانا بحر
المكارم ورافع رايات الجود الذي هو آية الندى والفضل أمير
المسلمين أبي سعيد ابن مولانا قامع الكفار والآخذ للإسلام
بالثار أمير المسلمين يوسف قدس الله أرواحهم الكريمة وأبقى
الملك في عقبهم الطاهر إلى يوم الدين.
صفحة : 79
وفي هذا الركب الأسواق الحافلة والمرافق العظيمة وأنواع
الأطعمة والفواكه وهم يسيرون بالليل ويوقدون المشاعل أمام
القطار والمحارات، فترى الأرض تلألأ نورا والليل قد عاد نهارا
ساطعا ثم رحلنا من بطن مر إلى عسفان ثم إلى خليص، ثم رحلنا
أربع مراحل، ونزلنا وادي السمك، ثم رحلنا خمسا، ونزلنا في بدر
وهذه المراحل ثنتان في اليوم: إحداهما بعد الصبح والأخرى
بالعشي، ثم رحلنا من بدر فنزلنا الصفراء، وأقمنا بها يوما
مستريحين، ومنها إلى المدينة الشريفة مسيرة ثلاث. ثم رحلنا
فوصلنا إلى طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصلت
لنا زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا، وأقمنا
بالمدينة كرمها الله تعالى ستة أيام، واستصحبنا منها الماء
لمسيرة ثلاث، ورحلنا عنها فنزلنا في الثالثة بوادي العروس،
فتزودنا منه الماء من حسيات يحفرون عليها في الأرض، فينبطون
ماء عذبا معينا، ثم رحلنا من وادي العروس ودخلنا أرض نجد، وهو
بسيط من الأرض على مد البصر، فتنسمنا نسيمه الطيب الأرج،
ونزلنا بعد أربع مراحل على ماء يعرف بالعسيلة ثم رحلنا عنه
ونزلنا ماء يعرف بالنقرة، فيه آثار مصانع كالصهاريج العظيمة،
ثم رحلنا إلى ماء يعرف بالقارورة، وهي مصانع مملوءة بماء المطر
مما صنعته زبيدة ابنة جعفر رحمها الله ونفعها وهذا الموضع هو
وسط أرض نجد فسيح طيب النسيم صحيح الهواء نقي التربة معتدل في
كل فصل، ثم رحلنا من القاروروة ونزلنا بالحاجز، وفيه مصانع
للماء، وربما جفت فحفر عن الماء في الجفار. ثم رحلنا ونزلنا
سميرة، وهي أرض غائرة في بسيط فيه شبه حصن مسكون وماؤها كثير
في آبار، إلا أنه زعاق ويأتي عرب تلك الأرض بالغنم والسمن
واللبن فيبيعون ذلك من الحجاج بالثياب الخام، ولا يبيعون بسوى
ذلك ثم رحلنا ونزلنا بالجبل المخروق، وهو في بيداء من الأرض،
وفي أعلاه ثقب نافذة تخرقه الريح ثم رحلنا منه إلى وادي الكروش
ولا ماء به ثم اسرينا ليلا وصبحنا حصن فيد وهو حصن كبير في
بسيط من الأرض يدور به سور وعليه ربض، وساكنوه عرب يتعيشون مع
الحاج في البيع والتجارة. وهنالك يترك الحجاج بعض أزوادهم حين
وصولهم من العراق إلى مكة شرفها الله تعالى، فإذا عادوا وجدوه
وهو نصف الطريق من مكة إلى بغداد، ومنه إلى الكوفة مسيرة اثني
عشر يوما في طريق سهل به المياه في المصانع، ومن عادة الركب أن
يدخلوا هذا الموضع على تعبئته وأهبة للحرب، ارهابا للعرب
االمجتمعين هنالك، وقطعا لأطناعهم عن الركب وهنالك لقينا أميري
العرب، وهما فياض وحيار واسمه بكسر الحاء واهماله وياء آخر
الحروف ، وهما ابنا الأمير مهنا بن عيسى، ومعهما من خيل العرب
ورجالهم من لا يحصون كثرة فظهر منهما المحافظة على الحاج
والرحال والحوطة لهم، وأتى العرب بالجمال والغنم وأشترى منهم
الناس ما قدروا عليه، ثم رحلنا ونهزلنا الموضع الأجفر، ويشتهر
باسم العاشقين: جميل وبثينة ثم رحلنا ونزلنا البيداء، ثم نزلنا
زرود، وهي بسيط من الأرض فيه رمال منهالة وبه دور صغار، قد
أدوارها شبه الحصن، وهنالك آبار ماء ليست بالعذبة ثم رحلنا
ونزلنا الثعلبية، ولها حصن خرب بإزائه مصنع هائل ينزل إليه في
درج، وبه من ماء المطر ما يعم الركب.
صفحة : 80
ويجتمع من العرب بهذا الموضع جمع عظيم فيبيعون الجمال والغنم
والسمن واللبن. ومن هذا الموضع إلى الكوفة ثلاث مراحل ثم رحلنا
فنزلنا ببركة المرجوم، وهو مشهد على الطريق عليه كوم عظيم من
حجارة، وكل من مر به رجمه ويذكر أن هذا المرجوم كان رافضيا،
فسافر مع الركب يريد الحج، فوقعت بينه وبين أهل السنة من
الأتراك مشاجرة، فسب بعض الصحابة،فقتلوه بالحجارة. وبهذا
الموضع بيوت كثيرة للعرب، ويقصدون الركب بالسمن واللبن وسوى
ذلك، وبه مصنع كبير يعم جميع الركب مما بنته زبيدة رحمة الله
عليها، وكل مصنع أو بركة أو بئر بهذا الطريق التي بين مكة
وبغداد، فهي من كريم آثارها جزاها الله خيرا، ووفى لها أجرها.
ولولا عنايتها بهذا الطريق ما سلكها أحد، ثم رحلنا ونزلنا
موضعا يعرف بالمشقوق، فيه مصنعان بهما الماء العذب الصافي،
وأراق الناس ما كان عندهم من الماء وتزودوا منهما. ثم رحلنا
ونزلنا موضعا يعرف بالتنانير، وفيه مصانع تمتلئ بالماء، ثم
أسرينا منه واجتزنا ضحوة بزمالة، وهي قرية معمورة بها قصر
للعرب ومصنعان للماء وآبار كثيرة، وهي من مناهل هذا الطريق ثم
رحلنا فنزلنا الهيثمين، وفيه مصنعان للماء ثم رحلنا فنزلنا دون
العقبة المعروفة بعقبة الشيطان، وصعدنا العقبة في اليوم الثاني
وليس بهذا الطريق وعر سواها، على أنها ليست بصعبة ولا طائلة،
ثم نزلنا موضعا يسمى واقصة فيه قصر كبير ومصانع للماء، معمور
بالعرب، وهو آخر مناهل هذا الطريق، وليس فيما بعده إلى الكوفة
منهل مشهور الا مشارع ماء الفرات، وبه يتلقى كثير من أهل
الكوفة الحاج، ويأتون بالدقيق والخبز والتمر والفواكه، ويهنئ
الناس بعضهم بعضا بالسلامة ثم نزلنا موضعا يعرف بلورة، فيه
مصنع كبير للماء ثم نزلنا موضعا يعرف بالمساجد، فيه ثلاث مصانع
ثم نزلنا موضعا يعرف بمنارة القرون، وهي منارة في بيداء من
الأرض بائنة الارتفاع مجللة بقرون الغزلان ولا عمارة حولها، ثم
نزلنا موضعا يعرف بالعذيب، وهو واد مخصب عليه عمارة وحوله فلا
خصبة فيها مسرح للبصر.
ثم نزلنا القادسية حيث كانت الوقعة الشهيرة على الفرس التي
أظهر الله فيها دين الإسلام وأذل المجوس عبدة النار فلم تقم
لهم بعدها قائمة واستأصل الله شأفتهم، وكان أمير المسلمين
يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وكانت القادسية مدينة
عظيمة افتتحها سعد رضي الله عنه، وخربت فلم يبق منها الآن الا
مقدار قرية كبيرة، وفيها حدائق النخل وبها مشارع من ماء
الفرات، ثم رحلنا منها فنزلنا مدينة مشهد علي بن أبي طالب رضي
الله عنه بالنجف، وهي مدينة حسنة في أرض فسيحة صلبة من أحسن
مدن العراق وأكثرها ناسا وأتقنها بناء ولها أسواق حسنة نظيفة
دخلناها من باب الحضرة، فاستقبلنا سوق البقالين والطباخين
والخبازين، ثم سوق الفاكهة ثم سوق الخياطين والقيسارية ثم سوق
العطارين ثم الحضرة حيث القبر الذي يزعمون أنه قبر علي عليه
السلام، وبإزائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة،
وحيطانها بالقاشاني وهو شبه الزليج عندنا لكن لونه أشرق ونقشه
أحسن.
ذكر الروضة والقبور التي بها
صفحة
: 81
ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية
من الشيعة ولكل وارد عليها ضيافة ثلاثة أيام من الخبز واللحم
والتمر مرتين في اليوم ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب القبة،
وعلى بابها الحجاب والنقباء والطواشية فعندما يصل الزائر يقوم
إليه أحدهم أو جميعم وذلك على قدر الزائر، فيقفون معه على
العتبة ويستأذنون له، ويقولون عن أمركم يا أمير المؤمنين هذا
العبد الضعيف يستأذن على دخوله الروضة العلية، فإن أذنتم له
وإلا رجع، وإن لم يكن أهلا لذلك فأنتم أهل المكارم والستر ثم
يأمرونه بتقبيل العتبة وهي من الفضة، وكذلك العضادتان، ثم يدخل
القبة وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه، وبها قناديل
الذهب والفضة، منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة
مكسوة بالخشب، عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل، مسمرة
بمسامير الفضة، قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء،
وارتفاعها دون القامة، وفوقها ثلاثة من القبور، يزعمون أن
أحدها قبر آدم عليه الصلاة والسلام، والثاني قبر نوح عليه
الصلاة والسلام، والثالث قبر علي رضي الله تعالى عنه وبين
القبور طسوت ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطيب يغمس
الزائر يده في ذلك ويدهن به وجهه تبركا. وللقبة باب آخر عتبته
أيضا من الفضة وعليه ستور الحرير الملون يفضي إلى مسجد مفروش
بالبسط الحسان، مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير، وله أربعة
أبواب، عتباتها فضة وعليها ستور الحرير، وأهل هذه المدينة كلهم
رافضية. وهذه الروضة ظهرت لها كرامات ثبت بها عندهم أن بها قبر
علي رضي الله عنه فمنها أن في ليلة السابع والعشرين من رجب
وتسمى عندهم ليلة المحيا، يؤتى إلى تلك الروضة بكل مقعد من
العراقين وخراسان وبلاد فارس والروم، فيجتمع منهم الثلاثون
والأربعون ونحو ذلك. فإذ كان بعد العشاء الآخرة جعلوا فوق
الضريح المقدس، والناس ينظرون قيامهم، وهم ما بين مصل وذاكر
وتال ومشاهد للروضة فإذا مضى من الليل نصفه، أو ثلثاه أو نحو
ذلك، قام الجميع أصحاء من غير سوء، وهم يقولون: لا إله إلا
الله محمد رسول الله علي ولي الله وهذا أمر مستفيض عندهم سمعته
من الثقات. ولم أحضر تلك الليلة لكني رأيت بمدرسة الضياف ثلاثة
من الرجال: أحدهم من أرض الروم والثاني من أصبهان والثالث من
خراسان، وهم مقعدون، فاستخبرهم عن شأنهم، فأخبروني أنهم لم
يدركوا ليلة المحيا، وأنهم منتظرون أوانها من عام آخر. وهذه
الليلة يجتمع لها الناس من البلاد، ويقيمون سوقا عظيمة مدة
عشرة أيام وليس بهذه المدينة مغرم ولا مكاس ولا وال، وإنما
يحكم عليهم نقيب الأشراف وأهلها تجار يسافرون في الأقطار، وهم
أهل شجاعة وكرم ولا يضام جارهم. صحبتهم في الأسفار فحمدت
صحبتهم، لكنهم غلوا في علي رضي الله عنه، ومن الناس في بلاد
العراق وغيرها من يصيبه المرض فينذر للروضة نذرا إذا برئ،
ومنهم من يمرض رأسه فيصنع رأسا من ذهب أو فضة ويأتي به إلى
الروضة، فيجعله النقيب في الخزانة، وكذلك اليد والرجل وغيرهما
من الأعضاء وخزانة الروضة عظيمة فيها من الأموال ما لا يضبط
لكثرته.
ذكر نقيب الأشراف
ونقيب الأشراف مقدم من ملك العراق، ومكانه عنده مكين، ومنزلته
رفيعة، وله ترتيب الأمراء الكبار في سفره، وله الأعلام
والأطبال، وتضرب الطبلخانة عند بابه مساء وصباحا، وإليه حكم
هذه المدينة، ولا والي بها سواه، ولا مغرم فيها للسلطان ولا
لغيره. وكان النقيب في عهد دخولي إليها نظام الدين حسين بن تاج
الدين الآوي، نسبة إلى بلده آوة من عراق العجم، أهلها رافضة،
وكان قبله جماعة، يلي كل واحد منهم بعد صاحبه، منهم جلال الدين
بن الفقيه ومنهم قوام الدين بن طاوس ومنهم ناصر الدين بن مطهر
بن الشريف الصالح شمس الدين محمد الأوهري من عراق العجم، وهو
الآن بأرض الهند من ندماء ملكها، ومنهم أبو غرة بن سالم بن
مهنا بن جماز بن شيحة الحسيني المدني.
حكاية
صفحة : 82
كان الشريف أبو غرة قد غلب عليه في أول أمره العبادة وتعلم
العلم واشتهر بذلك، وكان بالمدينة الشريفة كرمها الله في جوار
ابن عمه منصور بن جماز أمير المدينة، ثم إنه خرج عن المدينة
واستوطن العراق وسكن منها بالحلة، فمات النقيب قوام الدين بن
طاوس فانفق أهل العراق على تولية أبي غرة نقابة الأشراف،
وكتبوا بذلك إلى السلطان أبي سعيد فأمضاه ونفذ له اليرليغ، وهو
الظهير بذلك، وبعث له الخلعة والأعلام والطبول على عادة
النقباء ببلاد العراق، فغلبت عليه الدنيا، وترك العبادة
والزهد، وتصرف في الأموال تصرفا قبيحا فرفع أمره إلى السلطان،
فلما علم بذلك أعمل السفر، مظهرا أنه يريد خراسان، قاصدا زيارة
قبر علي بن موسى الرضا بطوس، وكان قصده الفرار. فلما زار علي
ابن موسى قدم هراة، وهي آخر بلاد خراسان، وأعلم أصحابه أنه
يريد بلاد الهند، فرجع أكثرهم عنه، وتجاوز هو أرض خراسان، إلى
السند فلما جاوز وادي السند المعروف ببنج آب ضرب طبوله وأنفاره
فراع ذلك أهل القرى وظنوا أن التتر أتوا للاغارة عليهم،
وأجفلوا إلى المدينة المسماة بأوجا، وأعلموا أميرها بما سمعوه،
فركب في عساكره واستعد للحرب وبعث الطلايع، فرأوا نحو عشرة من
الفرسان وجماعة من التجار والرجال ممن صحب الشريف في طريقه،
معهم الأطبال والأعلام، فسألوهم عن شأنهم، فأخبروهم أن الشريف
نقيب العراق أتى وافدا على ملك الهند، فرجع الطلايع إلى الأمير
وأخبروه بكيفية الحال فاستضعف عقل الشريف لرفعة العلامات وضربه
الطبول في غير بلاده. ودخل الشريف مدينة أوجا وأقام بها مدة،
تضرب الأطبال على باب داره غدوة وعشية، وكان مولعا بذلك. ويذكر
أنه كان في أيام نقابته بالعراق تضرب الأطبال على رأسه، فإذا
أمسك النقار عن الضرب يقول له زد نقرة يا نقار حتى لقب بذلك:
وكتب صاحب مدينة اوجا إلى ملك الهند يخبر الشريف وضربه الأطبال
بالطريق وعلى باب داره غدوة وعشيا ورفعه الأعلام وعادة أهل
الهند أن لا يرفع علما ولا يضرب طبلا إلا من أعطاه الملك ذلك،
ولا يفعله الا في السفر، وأما في حال الإقامة فلا يضرب الطبل
إلا على باب الملك خاصة، بخلاف مصر والشام والعراق فإن الطبول
تضرب على أبواب الأمراء، فلما بلغ خبره ملك الهند كره فعله
وأنكره وفعل في نفسه، ثم خرج الأمير إلى حضرة الملك، وكان
الأمير كشلي خان، والخان عندهم أعظم الأمراء، وهو الساكن
بملتان، كرسي بلاد السند، وهو عظيم القدر عند ملك الهند، يدعو
بالعم، لأنه كان ممن أعان أباه السلطان غياث الدين تغلق شاه
على قتال السلطان ناصر الدين خسرو شاه، قد قدم على حضرة ملك
الهند، فخرج الملك إلى لقائه فاتفق أن كان وصول الشريف في ذلك
اليوم، وكان الشريف قد سبق الأمير بأميال وهو على حاله من ضرب
الأطبال، فلم يرعه إلا السلطان في موكبه، فتقدم الشريف إلى
السلطان فسلم عليه وسأله السلطان عن حاله وما الذي جاء به
فأخبره، ومضى السلطان حتى لقي الأمير كشلي خان وعاد إلى حضرته،
ولم يلتفت إلى الشريف ولا أمر له بإنزال ولاغيره.
وكان الملك عازما على السفر إلى مدينة دولة أباد، وتسمى أيضا
بالكتكة بفتح الكافين والتاء المعلوة التي بينهما وتسمى أيضا
بالدونجر دوكير ، وهي على مسيرة أربعين يوما من مدينة دهلي
حاضرة الملك.
صفحة : 83
فلما شرع الملك في السفر بعث إلى الشريف بخمسمائة دينار دراهم،
وصرفها من ذهب المغرب مائة وخمسة وعشرون دينارا، وقال لرسوله
اليه: قل له إن أراد الرجوع إلى بلاده فهذا زاده، وإن أراد
السفر معنا فهي نفقته في الطريق، وان أراد الإقامة بالحضرة فهي
نفقته حتى نرجع، فاغتم الشريف لذلك، وكان قصده أن يجزل له
العطاء، كما هي عادته مع أمثاله واختار السفر صحبة السلطان،
وتعلق بالوزير أحمد بن أياس المدعو بخواجة جهان وبذلك سماه
الملك، وبه يدعوه هو، وبه بدعوة سائر الناس، فإن من عادتهم أنه
متى سمى الملك أحدا باسم مضاف إلى الملك من عماد أو ثقة أو
قطب، أو باسم مضاف إلى الجهان من صدر وغيره، فبذلك يخاطبه
الملك وجميع الناس، ومن خاطبه، بسوى ذلك لزمته العقوبة فتأكدت
المودة بين الوزير والشريف، فأحسن إليه ورفع قدره ولاطف الملك
حتى حسن فيه رأيه، وأمر له بقريتين من قرى دور أباد، وأمره أن
تكون إقامته بها وكان هذا الوزير من أهل الفضل والمروءة ومكارم
الأخلاق والمحبة في الغرباء، والإحسان إليهم وفعل الخير وإطعام
الطعام وعمارة الزوايا فأقام الشريف يستغل القريتين ثمانية
أعوام وحصل من ذلك مالا عظيما، ثم أراد الخروج، فلم يمكنه،
فإنه من خدم السلطان لا يمكنه الخروج إلا بإذنه وهو محب في
الغرباء، فقليلا ما يأذن لأحدهم في السراح، فأراد الفرار من
طريق الساحل فرد منه، وقدم الحضرة، ورغب من الوزير أن يحاول
قضية انصرافه، فتلطف الوزير في ذلك حتى أذن له السلطان في
الخروج عن بلاد الهند، وأعطاه عشرة آلاف دينار من دراهمهم،
وصرفها من ذهب المغرب ألفان وخمسمائة دينار، فأتى بها في بدرة،
فجعلها تحت فراشه ونام عليها، لمحبته في الدنانير وفرحه بها
وخوفه أن يتصل لأحد من أصحابه شيء منها، فإنه كان بخيلا،
فأصابه وجع في جنبه بسبب رقاده عليها ولم يزل يتزايد به وهو
آخذ في حركة سفره إلى ان توفي بعد عشرين يوما من وصول البدرة
إليه. أوصى بذلك المال للشريف حسن الجراني، فتصدق بجملته على
جماعة من الشيعة المقيمين بدهلي من أهل الحجاز والعراق وأهل
الهند، لا يورثون بيت المال ولا يتعرضون لمال الغرباء ولا
يسألون عنه، ولو بلغ ما عسى أن يبلغ وكذلك السودان لا يتعرضون
لمال الأبيض ولا يأخذونه، إنما يكون عند الكبار من أصحابه حتى
يأتي مستحقه. وهذا الشريف أبو غرة له أخ اسمه قاسم، سكن غرناطة
مدة، وبها تزوج بنت الشريف أبي عبد الله بن إبراهيم الشهير
بالمكي، ثم انتقل إلى جبل طارق فسكنه إلى ان استشهد بوادي كرة
من نظر الجزيرة الخضراء وكان بهمة من البهم لا يصطلي بناره،
خرق المعتاد في الشجاعة وله فيها أخبار شهيرة عند الناس، وترك
ولدين هما في كفالة ربيبهما الشريف الفاضل أبي عبد الله محمد
بن أبي القاسم بن نفيس الحسيني الكربلائي الشهير ببلاد المغرب
وبالعراق، وكان تزوج أمهما بعد موت أبيهما، وهو محسن لها جزاه
الله خيرا.
ولما تحصلت لنا زيارة أمير المؤمنين علي عليه السلام سافر
الركب إلى بغداد، وسافرت إلى البصرة صحبة رفقة كبيرة من عرب
خفاجة، وهم أهل تلك البلاد، ولهم شوكة عظيمة وبأس شديد، ولا
سبيل للسفر في تلك الأقطار الا في صحبتهم فاكتريت جملا على يد
أمير تلك القافلة شامر بن دراج الخفاجي وخرجنا من مشهد علي
عليه السلام، فنزلنا الخورنق، موضع سكنى النعمان بن المنذر
وآبائه من ملوك بني ماء السماء، وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة في
قضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات ثم رحلنا عنه فنزلنا موضعا
يعرف بقائم الواثق، وبه أثر قرية خربة ومسجد خرب لم يبق منه
إلا صومعته، ثم رحلنا عنه آخذين مع جانب الفرات بالموضع
المعروف بالعذار، وهو غابة قصب في وسط الماء يسكنها أعراب
يعرفون بالمعادي، وهم قطاع الطريق رافضية المذهب، خرجوا على
جماعة من الفقراء تأخروا عن رفقتنا، فسلبوهم حتى النعال
والكشاكل. وهم يتحصنون بتلك الغابة ويمتنعون بها ممن يريدهم،
والسباع بها كثيرة. ورحلنا مع هذا الغدار ثلاث مراحل، ثم وصلنا
مدينة واسط.
مدينة واسط
صفحة : 84
وهي حسنة الأقطار كثيرة البساتين والاشجار، بها أعلام يهدى
الخير شاهدهم، وتهدي الاعتبار مشاهدهم، وأهلها من خيار أهل
العراق، بل هم خيرهم على الاطلاق. أكثرهم يحفظون القرآن الكريم
ويجيدون تجويده بالقراءة الصحيحة، وإليهم يأتي أهل بلاد العراق
برسم تعلم ذلك. وكان في القافلة التي وصلنا فيها جماعة من
الناس أتوا برسم تجويد القرآن على من بها من الشيوخ، وبها
مدرسة عظيمة حافلة وفيها نحو ثلاثمائة خلوة ينزلها الغرباء
القادمون لتعلم القرآن. عمرها الشيخ تقي الدين عبد المحسن
الواسطي، وهو من كبار أهلها وفقهائها. ويعطي لكل متعلم بها
كسوة في السنة، ويجري له نفقته كل يوم، ويقعد هو وإخوانه
وأصحابه لتعليم القرآن بالمدرسة، وقد لقيته وأضافني وزودني
تمرا ودراهم. ولما نزلنا مدينة واسط أقامت القافلة ثلاثا
بخارجها للتجارة. فسنح لي زيارة قبر الولي أبي العباس أحمد
الرفاعي، وهو بقرية تعرف بأم عبيدة، على مسيرة يوم من واسط.
فطلبت من الشيخ تقي الدين أن يبعث معي من يوصلني إليها. فبعث
معي ثلاثة من عرب بني أسد، وهم قطان تلك الجهة. وأركبني فرسا
له، وخرجت ظهرا، فبت تلك الليلة بحوش بني أسد، ووصلنا في ظهر
اليوم الثاني إلى الرواق، وهو رباط عظيم فيه آلاف من الفقراء.
وصادفنا به قدوم الشيخ أحمد كوجك حفيد ولي الله أبي العباس
الرفاعي الذي قصدنا زيارته. وقد قدم من موضع سكناه من بلاد
الروم برسم زيارته قبر جده، وإليه انتهت الشياخة بالرواق. ولما
انقضت صلاة العصر ضربت الطبول والدفوف، وأخذ الفقراء في الرقص،
ثم صلوا المغرب وقدموا السماط، وهو خبز الأرز والسمك واللبن
والتمر، فأكل الناس، ثم صلوا العشاء الآخرة، وأخذوا في الذكر،
والشيخ أحمد قاعد على سجادة جده المذكور، ثم أخذوا في السماع،
وقد أعدوا أحمالا من الحطب فأججوها نارا، ودخلوا في وسطها
يرقصون ومنهم من يتمرغ فيها ومنهم من يأكلها بفمه حتى أطفأها
جميعا وهذا دأبهم. وهذه الطائفة الأحمدية مخصوصون بهذا، وفيهم
من يأخذ الحية العظيمة فيعض بأسنانه على رأسها حتى يقطعه.
حكاية
كنت مررت بموضع يقال له، أفقانبور، من عمالة هزار أمروها،
وبينها وبين دهلي حضرة الهند مسيرة خمس. وقد نزلنا بها على نهر
يعرف بنهر السرور، وذلك في أوان الشكال، والشكال عندهم هو
المطر، وينزل في إبان القيظ. وكان السيل ينحدر في هذا النهر من
جبال قراجيل. فكل من يشرب منه من إنسان أو بهيمة يموت لنزول
المطر على الحشائش المسمومة. فأقمنا على النهر أربعة أيام لا
يقربه أحد، ووصل إلى هنالك جماعة من الفقراء في أعناقهم أطواق
الحديد وفي أيديهم، وكبيرهم رجل أسود حالك اللون. وهم من
الطائفة المعروفة بالحيدرية. فباتوا عندنا ليلة، وطلب مني
كبيرهم أن آتيه بالحطب ليوقدوه عند رقصهم، فكلفت والي تلك
الجهة وهو عزيز المعروف بالخمار، وسيأتي ذكره ، أن يأتي
بالحطب فوجه منه عشرة أحمال، فأضرموا فيه النار بعد صلاة
العشاء الآخرة حتى صارت جمرا، وأخذوا في السماع، ثم دخلوا في
تلك النار. فما زالوا يرقصون ويتمرغون فيها، وطلب مني كبيرهم
قميصا، فأعطيته فقميصا في النهاية من الرقة، فلبسه وجعل يتمرغ
به في النار ويضربها بأكمامه حتى طفئت تلك النار، وخمدت. وجاء
إلي بالقميص، والنار لم تؤثر فيه شيئا البتة. فطال عجبي منه.
ولما حصلت لي زيارة الشيخ أبي العباس الرفاعي نفع الله به،
وعدت إلى مدينة واسط، فوجدت الرفقة التي كنت فيها قد رحلت،
فلحقتها في الطريق ونزلنا ماء يعرف بالهضيب، ثم رحلنا بوادي
الكراع وليس به ماء، ثم رحلنا ونزلنا موضعا يعرف بالمشيرب. ثم
رحلنا منه ونزلنا بالقرب من البصرة، ثم رحلنا فدخلنا ضحوة
النهار إلى مدينة البصرة.
مدينة البصرة
صفحة : 85
فنزلنا بها رباط مالك بن دينار، وكنت رأيت عند قدومي عليها على
نحو ميلين منها بناء عاليا مثل الحصن، فسألت عنه، فقيل لي: هو
مسجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكانت البصرة من اتساع
الخطة وانفساح الساحة بحيث كان هذا المسجد في وسطها. وبينه
الآن وبينها ميلان ، وكذلك بينه وبين السور الأول المحيط بها
نحو ذلك، فهو متوسط بينهما. ومدينة البصرة إحدى أمهات العراق
الشهيرة الذكر في الآفاق الفسيحة الأرجاء المونقة الأفناء، ذات
البساتين الكثيرة والفواكه الأثيرة، توفر قسمها من النضارة
والخصب، لما كانت مجمع البحرين: الأجاج والعذب، وليس في الدنيا
أكثر نخلا منها، فيباع التمر في سوقها بحساب أربعة عشر رطلا
عراقية بدرهم، ودرهمهم ثلث النقرة. ولقد بعث إلى قاضيها حجة
الدين بقوصرة تمر، يحملها الرجل على تكلف، فأردت بيعها، فبيعت
بتسعة دراهم، أخذ الحمال منها ثلثها عن أجرة حملها من المنزل
إلى السوق. ويصنع بها من التمر عسل يسمى السيلان، وهو طيب كأنه
الجلاب.
والبصرة ثلاثة محلات: احداها محلة هذيل، وكبيرها الشيخ الفاضل
علاء الدين بن الأثير، من الكرماء الفضلاء، أضافني وبعث إلي
بثياب ودراهم، والمحلة الثانية محلة بني حرام، كبيرها السيد
الشريف مجد الدين موسى الحسنى، ذو مكارم وفواضل، أضافني وبعث
إلي التمر والسيلان والدراهم، والمحلة الثالثة محلة العجم،
كبيرها جمال الدين ابن اللوكي. وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق
وإيناس للغريب وقيام بحقه، فلا يستوحش فيما بينهم غريب. وهم
يصلون الجمعة في مسجد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الذي
ذكرته، ثم يسد فلا يأتونه إلا في الجمعة. وهذا المسجد من أحسن
المساجد، وصحنه متناهي الانفساح مفروش بالحصباء الحمراء التي
يؤتى بها من وادي السباع، وفيه المصحف الكريم الذي كان عثمان
رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل، وأثر تغييره الدم في الورقة
التي فيها قوله تعالى: فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم .
حكاية اعتبار
شهدت مرة بهذا المسجد صلاة الجمعة، فلما قام الخطيب إلى
الخطبة وسردها، لحن فيها لحنا كثيرا جليا، فعجبت من أمره،
وذكرت ذلك للقاضي حجة الدين. فقال لي: إن هذا البلد لم يبق به
من يعرف شيئا من علم النحو. وهذه عبرة لمن تفكر فيها. سبحان
مغير الأشياء ومقلب الأمور. هذه البصرة التي إلى أهلها انتهت
رياسة النحو، وفيها أصله وفرعه، ومن أهلها إمامه الذي لا ينكر
سبقه، لا يقيم خطيبها خطبة الجمعة على دؤوبه عليها. ولهذا
الجامع سبع صوامع، إحداها الصومعة التي تتحرك بزعمهم، عند ذكر
علي بن أبي طالب رضي الله عنه. صعدت إليها من أعلى سطح الجامع،
ومعي بعض أهل البصرة، فوجدت في ركن من أركانها مقبض خشب مسمرا
فيها، كأنه مقبض مملسة البناء. فجعل الرجل الذي كان معي يده في
ذلك المقبض، وقال: بحق رأس أمير المؤمنين علي رضي الله عنه،
تحركي، وهز المقبض، فتحركت الصومعة، فجعلت أنا يدي في المقبض
وقلت له، وانا أقول: بحق رأس أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله
عليه وسلم تحركي، وهززت المقبض فتحركت الصومعة فعجبوا من ذلك.
وأهل البصرة على مذهب السنة والجماعة، ولا يخاف من يفعل مثل
فعلي عندهم، ولو جرى مثل هذا بمشهد الحسين، أو بالحلة، أو
بالبحرين، أو قم، أو قاشان، أو ساوة، أو آوة، أو طوس، لهلك
فاعله، لأنهم رافضة غالية. قال ابن جزي: قد عاينت بمدينة
برشانة من وادي المنصورة من بلاد الأندلس حاطها الله صومعة
تهتز من غير أن يذكر لها أحد من الخلفاء أو سواهم، وفي صومعة
الجامع الأعظم بها، وبناؤها ليس بالقديم. وهي كأحسن ما أنت راء
من الصوامع، حسن منظر واعتدالا وارتفاعا، لا ميل فيها ولا زيغ.
صعدت إليها مرة، ومعي جماعة من الناس، فأخذ بعض من كان معي
بجوانب جامورها وهزوها فاهتزت، حتى أشرت إليهم أن يكفوا فكفوا
عن هزها.
ذكر المشاهدة المباركة بالبصرة
صفحة : 86
فمنها مشهد طلحة بن عبد الله أحد العشرة رضي الله عنهم، وهو
بداخل المدينة وعليه قبة وجامع وزاوية فيها الطعام للوارد
والصادر. وأهل البصرة يعظمونه تعظيما شديدا وحق له، ومنها مشهد
الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن
عمته رضي الله عنهما، وهو بخارج البصرة، ولا قبة عليه، وله
مسجد وزاوية فيها الطعام لأبناء السبيل. ومنها قبر حليمة
السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة رضي الله
عنها، وإلى جانبها قبر ابنها رضيع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ومنها قبر أبي بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعليه قبة، وعلى ستة أميال منها بقرب وادي السباع قبر أنس بن
مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل لزيارته إلا
في جمع كثيف لكثرة السباع وعدم العمران، ومنها قبر الحسن ابن
أبي الحسن البصري سيد التابعين رضي الله عنه، وقبر عتبة الغلام
رضي الله عنه، وقبر مالك ابن دينار رضي الله عنه، وقبر حبيب
العجمي رضي الله عنه، وقبر سهل بن عبد الله التستري رضي الله
عنه. وعلى كل قبر منها قبة مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته.
وذلك كله داخل السور القديم. وهي اليوم بينها وبين البلد نحو
ثلاثة أميال. وبها سوى ذلك قبور الجم الغفير من الصحابة
والتابعين والمستشهدين يوم الجمل. وكان أمير البصرة حتى ورودي
عليها يسمى بركن الدين العجمي التوريزي، أضافني فأحسن إلي.
والبصرة على ساحل الفرات والدجلة، وبها المد والجزر، كمثل ما
هو بوادي سلا، من بلاد المغرب، وسواه، والخليج المالح الخارج
من بحر فارس على عشرة أميال منها. فإذا كان المد غلب الماء
المالح على العذب، وإذا كان الجزر غلب الماء الحلو على الماء
المالح، فيستسقي أهل البصرة ماء غير جيد لدورهم. ولذلك يقال:
إن ماءهم زعاق. قال ابن جزي، وبسبب ذلك كان هواء البصرة غير
جيد، وألوان أهلها مصفرة كاسفة، حتى ضرب بهم المثل. وقال بعض
الشعراء وقد أحضرت بين يدي الصاحب أترجة:
للـه أتـرج غـدا بـينـنـا معبرا عن حال
ذي عبـره
لما كسى الله ثياب الضـنـا أهل الهوى
وساكني البصره
ثم
ركبت من ساحل البصرة في صنبوق، وهو القارب الصغير إلى الأبلة.
وبينها وبين البصرة عشرة أميال، في بساتين متصلة ونخيل مظلة عن
اليمين واليسار. والبياعة في ظلال الأشجار يبيعون الخبز والسمك
والتمر واللبن والفواكه. وفيما بين البصرة والأبلة متعبد سهل
بن عبد الله التستري. فإذا حاذاه الناس بالسفن تراهم يشربون
الماء مما يحاذيه من الوادي، ويدعون عند ذلك تبركا بهذا الولي
رضي الله عنه. والنواتية يحرفون في هذا البلاد، وهم قيام.
وكانت الأبلة مدينة عظيمة يقصدها تجار الهند وفارس فخربت. وهي
الآن قرية بها آثار قصور وغيرها، دالة على عظمها: ثم ركبنا في
الخليج الخارج من بحر فارس في مركب صغير لرجل من أهل الأبلة
يسمى بمغامس، وذلك فيما بعد المغرب، فصبحنا عبادان، وهي قرية
كبيرة في سبخة، لا عمارة بها، وفيها مساجد كثيرة ومتعبدات
ورباطات للصالحين. وبينها وبين الساحل ثلاثة أميال. قال ابن
جزي: عبادان كانت بلدا فيما تقدم، وهي مجدبة لا زرع بها، وإنما
يجلب إليها، والماء أيضا بها قليل. وقد قال فيها بعض
الشعراء:
من مبلغ أنـدلـسـا أنـنـي حللت عبادان
أقصى الثـرى
أوحش ما أبصرت لكـنـنـيي قصدت فيها ذكرها
في الورى
الخبـز فـيهـا يتـهـادونـه وشربة الماء
بها تـشـتـرى
صفحة : 87
وعلى ساحل البحر منها رابطة، تعرف بالنسبة إلى الخضر وإلياس
عليهما السلام. وبإزائها زاوية يسكنها أربعة من الفقراء
بأولادهم يخدمون الرابطة والزاوية، ويتعيشون من فتوحات الناس
وكل من يمر بهم يتصدق عليهم. وذكر لي أهل هذه الزاوية، أن
بعبادان عابدا كبير القدر ولا أنيس له، يأتي هذا البحر مرة في
الشهر، فيصطاد فيه ما يقوته شهرا، ثم لايرى إلا بعد تمام شهر.
وهو على ذلك منذ أعوام. فلما وصلنا عبادان لم يكن لي شأن إلا
طلبه، فاشتغل من كان معي بالصلاة في المساجد والمتعبدات،
وانطلقت طالبا له. فجئت مسجدا خربا فوجدته يصلي فيه، فجلست في
جانبه، فأوجز في صلاته. ولما سلم أخذ بيدي وقال لي: بلغك الله
مرادك في الدنيا والآخرة، فقد بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا،
وهو السياحة في الارض، وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما
أعلمه، وبقيت الأخرى. والرجاء قوي في رحمة الله وتجاوزه وبلوغ
المراد من دخول الجنة. ولما أتيت أصحابي أخبرتهم خبر الرجل
وأعلمتهم بموضعه، فذهبوا إليه فلم يجدوه، ولا وقعوا له على
خبر. فعجبوا من شأنه، وعدنا بالعشي إلى الزاوية فبتنا بها،
ودخل علينا أحد الفقراء الأربعة بعد صلاة العشاء الآخرة. ومن
عادة ذلك الفقير أن يأتي عبادان كل ليلة فيسرج السرج بمساجدها،
ثم يعود إلى زاويته. فلما وصل إلى عبادان وجد الرجل العابد
فأعطاه سمكة طرية وقال له: أوصل هذه إلى الضيف الذي قدم اليوم.
فقال لنا الفقير عند دخوله علينا: من رأى منكم الشيخ اليوم ?
فقلت له: أنا رأيته. فقال: يقول لك هذه ضيافتك. فشكرت الله على
ذلك، وطبخ لنا الفقير تلك السمكة، فأكلنا منها أجمعون، وما
أكلت قط سمكا أطيب منها. وهجس في خاطري الإقامة بقية العمر في
خدمة ذلك الشيخ، ثم صرفتني النفس اللجوج عن ذلك، ثم ركبنا
البحر عند الصبح بقصد بلدة ماجول. ومن عادتي في سفري أن لا
أعود على طريق سلكتها ما أمكنني ذلك. وكنت أحب قصد بغداد
العراق، فأشار علي بعض أهل البصرة بالسفر إلى أرض اللور، ثم
إلى عراق العجم، ثم إلى عراق العرب. فعملت بمقتضى إشارته،
ووصلنا بعد أربعة ايام إلى بلدة ماجول، على وزن فاعول وجيمها
معقودة، وهي صغيرة على ساحل الخليج الذي ذكرنا أنه يخرج من بحر
فارس، وأرضها سبخة لا شجر فيها ولا نبات، ولها سوق عظيمة من
أكبر الأسواق. وأقمت بها يوما واحدا، ثم اكتريت دابة لركوبي من
الذين يجلبون الحبوب من رامز إلى ماجول، وسرنا ثلاثا في صحراء
يسكنها الأكراد في بيوت الشعر. ويقال: إن اصلهم من العرب، ثم
وصلنا إلى مدينة رامز، وأول حروفها راء وآخرها زاي وميمها
مكسورة ، وهي مدينة حسنة ذات فواكه وأنهار نزلنا بها عند
القاضي حسام الدين محمود، ولقيت عنده رجلا من أهل العلم والدين
والورع، هندي ألأصل، يدعى بهاء الدين، ويسمى إسماعيل، وهو من
أولاد الشيخ بهاء الدين أبي زكريا الملتاني، وقرأ على مشايخ
توريز وغيرها. وأقمت بمدينة رامز ليلة واحدة، ثم رحلنا منها
ثلاثا في بسيط فيه قرى يسكنها الاكراد. وفي كل مرحلة منها
زاوية فيها للوارد الخبز واللحم والحلواء، وحلواؤهم من رب
العنب مخلوط بالدقيق والسمن.
وفي كل زاوية الشيخ والإمام والمؤذنون والخادم للفقراء
والعبيد يطبخون الطعام. ثم وصلت مدينة تستر، وهي آخر البسيط من
بلاد أتابك، وأول الجبال مدينة كبيرة رائقة نضرة، وبها
البساتين الشريفة والرياض المنيفة، ولها المحاسن البارعة
والأسواق الجامعة، وهي قديمة البناء افتتحها خالد بن الوليد.
ووالي هذه المدينة ينسب إلى سهل بن عبد الله ويحيط بها النهر
المعروف بالأزرق، وهو عجيب في نهاية من الصفاء شديد البرودة في
أيام الحر، ولم أر كزرقته إلا نهر بلخشان. ولها باب واحد
للمسافرين يسمى دراوزة دسبول، والدراوزة عندهم الباب. ولها
أبواب غير شارعة إلى النهر. وعلى جانبي النهر البساتين
والدواليب. والنهر عميق، وعلى باب المسافرين منه جسر على
القوارب كجسر بغداد واحلة. قال ابن جزي: وفي هذا النهر يقول
بعضهم:
أنظر لشاذروان تستر واعجب من جمعه ماء
لري بـلاده
ككمي قوم جمعت أمـوالـه فغدا يفرقه علـى
أجـنـاده
صفحة : 88
والفواكه بتستر كثيرة، والخيرات متيسرة، ولا مثل لأسواقها في
الحسن وبخارجها تربة معظمة يقصدها أهل تلك الأقطار للزيارة،
وينذرون لها النذور. ولها زاوية بها جماعة من الفقراء. وهم
يزعمون أنها تربة زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب، وكان نزولي في مدينة تستر في مدرسة الشيخ الإمام الصالح
المتفنن شرف الدين موسى ابن الشيخ الصالح الإمام العالم صدر
الدين سليمان، وهو من ذرية سهل بن عبد الله. وهذا الشيخ ذو
مكارم وفضائل، جامع بين العلم والدين والصلاح والإيثار، وله
مدرسة وزاوية، وخدامها فتيان، له أربعة أولاد: سنبل وكافور
وجوهر وسرور أحدهم موكل بأوقاف الزاوية، والثاني متصرف فيما
يحتاج إليه من النفقات في كل يوم، والثالث خديم السماط بين
أيدي الواردين ومرتب الطعام لهم، والرابع موكل بالطباخين
والسقائين والفراشين. فأقمت عنده ستة عشر يوما، فلم أر أعجب من
ترتيبه، ولا أرغد من طعامه. يقدم بين يدي الرجل ما يكفي
الأربعة من الأرز المفلفل المطبوخ في السمن والدجاج المقلي
والخبز واللحم والحلواء. وهذا الشيخ من أحسن الناس صورة
وأقومهم سيرة، وهو يعظ الناس بعد صلاة الجمعة بالمسجد الجامع.
ولما شاهدت مجالسه في الواعظ صغر لدي كل واعظ رأيته قبله
بالحجاز والشام ومصر، ولم ألق فيمن لقيته مثله.
حضرت يوما عنده ببستان له على شاطئ النهر، وقد اجتمع فقهاء
المدينة وكبراؤها، وأتى الفقهاء من كل ناحية، فأطعم الجميع، ثم
صلى بهم صلاة الظهر، وقام خطيبا وواعظا، بعد أن قرأ القراء
أمامه بالتلاحين المبكية والنغامت المحركة المهيجة، وخطب خطبة
بسكينة ووقار، وتصرف في فنون العلم من تفسير كتاب الله وإيراد
حديث رسول الله والتكلم على معانيه، ثم ترامت عليه الرقاع من
كل ناحية. ومن عادة الأعاجم أن يكتبوا المسائل في رقاع، ويرموا
بها إلى الواعظ، فيجيب عنها. فلما رمي إليه بتلك الرقاع جمعها
في يده، وأخذ يجيب عنها واحدة بعد واحدة بأبدع جواب وأحسنه.
وحان وقت صلاة العصر فصلى بالقوم وانصرفوا. وكان مجلسه مجلس
علم ووعظ وبركة وتبادر التائبون فأخذ عليهم العهد وجز نواصيهم،
وكانوا خمسة عشر رجلا من الطلبة قدموا من البصرة برسم ذلك،
وعشرة رجال من عوام تستر.
حكاية لما دخلت هذه المدينة أصابني مرض الحمى، وهذه البلاد
يحم داخلها في زمان الحر، كما يعرض في دمشق وسواها من البلاد
كثيرة المياه والفواكه. وأصابت الحمى أصحابي أيضا. فمات منهم
شيخ اسمه يحيى الخراساني، وقام الشيخ بتجهيزه من كل ما يحتاج
إليه الميت، وصلى عليه. وتركت بها صاحبا يدعي بهاء الدين
الخشني، فمات بعد سفري. وكنت حين مرضي لا أشتهي الأطعمة التي
تصنع لي بمدرسته، فذكر لي الفقيه شمس الدين السندي من طلبتها
طعاما فاشتهيته، ودفعت له دراهم وطبخ لي ذلك الطعام بالسوق
وأتى به إلي فأكلت منه. وبلغ ذلك الشيخ فشق عليه، وأتى إلي
وقال لي: كيف تفعل هذا وتطبخ الطعام في السوق ? وهلا أمرت
الخدم أن يصنعوا لك ما تشتهيه. ثم أحضر جميعهم وقال لهم: جميع
ما يطلب منكم من أنواع الطعام والسكر وغيره فأتوه به، واطبخوا
له ما يشاء. وأكد عليهم في ذلك أشد التأكيد، جزاه الله خيرا.
ثم سافرنا من مدينة تستر ثلاثا في جبال شامخة. وبكل منزل
زاوية، كما تقدم ذكر ذلك. ووصلنا إلى مدينة إيذج وضبط اسمها
بكسر الهمزة وياء مد وذال معجم مفتوح وجيم ، وتسمى أيضا مال
الأمير، وهي حضرة السلطان أتابك. وعند وصولي إليها اجتمعت بشيخ
شيوخ العالم الورع نور الدين الكرماني، وله النظر في كل
الزوايا، وهي يسمونها المدرسة. والسلطان يعظمه وبقصد زيارته،
وكذلك أرباب الدولة وكبراء الحضرة، يزورونه غدوا وعشيا،
فأكرمني وأضافني وأنزلني زاوية تعرف باسم الدينوري، وأقمت بها
أياما، وكان وصولي في أيام القيظ، وكنا نصلي صلاة الليل، ثم
ننام بأعلى سطحها، ثم ننزل إلى الزاوية ضحوة. وكان في صحبتي
اثنا عشر فقيرا، منهم إمام وقارئان مجيدان وخادم، ونحن على
أحسن ترتيب.
ذكر ملك إيذج وتستر
صفحة : 89
وملك
إيذج في عهد دخولي إليها السلطان أتابك افراسياب بن السلطان
أتابك أحمد وأتابك عندهم سمة لجميع من يلي تلك البلاد من ملك.
وهي تسمى بلاد اللور. وولي هذا السلطان بعد أخيه أتابك يوسف،
وولي يوسف بعد أبيه أحمد، وكان احمد المذكور ملكا صالحا، سمعت
من الثقات ببلاده أنه عمر أربعمائة وستين زاوية ببلاده، منها
بحضرة إيذج أربع وأربعون، وقسم الخراج أثلاثا: ثلث لنفقة
الزوايا والمدارس، وثلث لمراتب العسكر، وثلث لنفقته ونفقة
عياله وعبيده وخدامه، ويبعث منه هدية لملك العراق في كل سنة،
وربما وفد عليه بنفسه، وشاهدت من أثاره الصالحة ببلاده أن
أكثرها في جبال شامخة، وقد نحتت الطرق في الصخور، وسويت ووسعت،
بحيث تصعدها الدواب بأحمالها. وطول هذه الجبال مسيرة سبعة عشر
في عرض عشرة، وهي شاهقة متصل بعضها ببعض، تشقها الأنهار،
وشجرها البلوط، وهم يصنعون من دقيقه الخبز، وفي كل منزل من
منازلها زاوية يسمونها المدرسة، فإذا وصل المسافر إلى مدرسة
منها أتي بما يكفيه من الطعام والعلف لدابته سواء طلب ذلك أو
لم يطلبه فإن عادتهم أن يأتي خادم المدرسة فيعد من نزل بها من
الناس، ويعطي كل واحد منهم قرصين من الخبز ولحما وحلواء،
وجميعم من أوقاف السلطان عليها. وكان السلطان أتابك أحمد زاهدا
صالحا كما ذكرناه، يلبس تحت ثيابه مما يلي جسده ثوب شعر.
حكاية
قدم السلطان أتابك أحمد مرة على ملك العراق أبي سعيد، فقال له
بعض خواصه إن أتابك أحمد يدخل عليك وعليه الدرع، وظن ثوب الشعر
الذي تحت ثيابه درعا، فأمره بإختبار ذلك على جهه من الانبساط
ليعرف حقيقته، فدخل عليه يوما فقام إليه الأمير الجوبان عظيم
الأمراء العراق، والأمير سويته أمير ديار بكر، والشيخ حسن الذي
هو الآن سلطان العراق، وأمسوكوا بثيابه كأنهم يمازحونه، فوجدوا
تحت ثيابه ثوب الشعر، ورآه السلطان أبو سعيد وقام إليه وعانقه
وأجلسه إلى جواره وقال له: سن أطا بالتركية، ومعناه أنت أبي،
وعوضه عن هديته بأضعافها، وكتب له اليرليغ، وهو الظهير، أن لا
يطالبه بهدية بعدها هو ولا أولاده وفي تلك السنة توفي وولي
ابنه أتابك يوسف عشرة أعوام، ثم ولي أخوه افراسياب. ولما دخلت
مدينة إيذج أردت رؤية افراسياب المذكور فلم يتأت لي ذلك، بسبب
أنه لا يخرج إلى يوم الجمعة لإدمانه على الخمر وكان له ابن هو
ولي عهده، وليس له سواه فمرض في تلك الأيام، وفي إحدى الليالي
أتاني أحد خدامه، وسألني عن حالي فعرفته، وذهب، ثم جاء بعد
صلاة المغرب، ومعه طيفوران كبيران: أحدهما بالطعام والآخر
بالفاكهة، وخريطة فيها دراهم، ومعهم أهل السماع بآلاتهم، وقال:
اعملوا السماع حتى يهزج الفقراء، ويدعون لابن السلطان فقلت له:
إن اصحابي لا يدرون بالسماع ولا بالرقص، ودعونا للسلطان ولولده
وقسمت الدراهم على الفقراء. ولما كان نصف الليل سمعنا الصراخ،
وقد مات المريض المذكور وفي الغد دخل علي شيخ الزاوية وأهل
البلد وقالوا: إن كبراء المدينة من القضاة والفقهاء والأشراف
والأمراء قد ذهبوا إلى دار السلطان للعزاء، فينبغي لك أن تذهب
في جملتهم فأبيت، فعزموا علي، فلم يكن لي بد من المسير، وسرت
معهم، فوجدت مشوار دار السلطان ممتلئا رجالا وصبيانا من
المماليك، وأبناء الملوك والوزراء والأجناد قد لبسوا التلابيس،
وجلال الدواب، وجعلوا فوق رؤوسهم التراب والتبن، وبعضهم قد جز
ناصيته وانقسموا فرقتين فرقة بأعلى المشور، وفرقة بأسفله وتزحف
كل فرقة إلى الأخرى، وهم ضاربون بأيديهم على صدورهم قائلين
خوند كارما، ومعنا مولاي أنا، فرأيت من ذلك أمرا هائلا ومنظرا
فظيعا لم أعهد مثله.
?حكاية
ومن غريب ما اتفق لي يومئذ أني دخلت فرأيت القضاة والخطباء
والشرفاء، قد استندوا إلى حيطان المشور، وهو غاص بهم من جميع
جهاته، وهم بين باك ومتباك ومطرق، وقد لبسوا فوق ثيابهم ثيابا
خامة من غليظ القطن غير محكمة الخياطة بطائنها إلى أعلى
ووجوهها مما يلي أجسادهم، وعلى رأس كل واحد منهم خرقة أو مئزر
أسود، وهكذا يكون فعلهم إلى تمام أربعين يوما وهي نهاية الحزن
عندهم، وبعدها يبعث السلطان لكل من فعل ذلك كسوة كاملة.
صفحة : 90
فلما رأيت جهات المشور غاصة بالناس نظرت يمينا وشمالا، أرتاد
موضعا لجلوسي فرأيت هنالك سقيفة مرتفعة من الأرض بمقدار شبر،
وفي إحدى زواياها رجل منفرد عن الناس قاعد، عليه ثوب صوف مثل
اللبد يلبسه بتلك البلاد ضعفاء الناس أيام المطر والثلج وفي
الأسفار، فتقدمت منه، وانقطع عني أصحابي لما رأوا إقدامي نحوه،
وعجبوا مني وأنا لا علم لي بشيء من حاله فصعدت السقيفة وسلمت
على الرجل، فرد علي السلام، وارتفع عن الأرض كأنه يريد القيام،
وهم يسمون ذلك نصف القيام وقعدت في الركن المقابل له، ثم نظرت
إلى الناس، وقد رموني بأبصارهم جميعا فعجبت منهم، ورأيت
الفقهاء والمشايخ وألأشراف مستندين إلى الحائط تحت السقيفة،
وأشار إلي أحد القضاة أن أنحط إلى جانبه فلم أفعل، وحينئذ
استشعرت أنه السلطان فلما كان بعد ساعة أتى شيخ المشايخ نور
الدين الكرماني الذي ذكرناه قبل، فصعد إلى السقيفة وسلم على
الرجل فقام إليه وجلس فيما بيني وبينه، فحيئذ علمت أنه
السلطان.
ثم جيء بالجنازة، وهي بين أشجار الأترج والليمون وقد ملأوا
أغصانها بثمارها، وهي بأيدي الرجال فأكان الجنازة تمشي في
بستان، والمشاعل في رماح طوال بين يديها، والشمع كذلك، فصلى
عليها، وذهب الناس معها إلى مدفن الملوك، وهو بموضع يقال له:
هلا فيجان، على اربعة أميال من المدينة، وهنالك مدرسة عظيمة
يشقها نهر، وبداخلها مسجد تقام فيه الجمعة وبخارجها حمام، ويحف
بها بستان عظيم وبها الطعام للوارد والصادر، ولم أستطع أن أذهب
معهم إلى المدفن لبعد الموضع فعدت إلى المدرسة.
فلما كان بعد ايام بعث إلي السلطان رسوله الذي أتاني بالضيافة
اولا يدعوني إليه، فذهبت معه إلى باب يعرف بباب السر، وصعدنا
في درج كثيرة إلى أن انتهينا إلى موضع لا فرش به، لأجل ما هم
فيه من الحزن، والسلطان جالس فوق مخدة، وبين يديه آنيتان قد
غطيتا، إحداهما من الذهب وألأخرى من الفضة، وكانت بالمجلس
سجادة خضراء، ففرشت لي بالقرب منه، وقعدت عليها وليس بالمجلس
إلا حاجبه الفقيه محمود، ونديم له لا أعرف اسمه فسألني عن حالي
وبلادي، وسألني عن الملك الناصر، وبلاد الحجاز، فأجبته عن ذلك،
ثم جاء فقيه كبير، وهو رئيس فقهاء تلك البلاد، فقال لي
السلطان، هذا مولانا فضيل، والفقيه ببلاد الأعاجم كلها إنما
يخاطب بمولانا وبذلك يدعوه السلطان وسواه، ثم أخذ في الثناء
على الفقيه المذكور، وظهر لي أن السكر غالب عليه، وكنت قد عرفت
إدمانه على الخمر، ثم قال لي باللسان العربي، وكان يحسنه تكلم
فقلت له: إن كنت تسمع مني أقول لك: أنت من أولاد السلطان أتابك
احمد المشهور بالزهد والصلاح، وليس فيك ما يقدح في سلطنتك غير
هذا، وأشرت إلى الآنيتين فخجل من كلامي وسكت، وأردت الأنصراف،
فأمرني بالجلوس، وقال لي: الاجتماع مع أمثالك رحمة، ثم رأيته
يتمايل ويريد النوم، فانصرفت وكنت تركت نعلي بالباب فلم أجده،
فنزل الفقيه محمود في طلبه، وصعد الفقيه فضل يطلبه في داخل
المجلس، فوجده في طاق هنالك فأتى به فأخجلني بره واعتذرت إليه،
فقبل نعلي ووضعه على رأسه وقال لي: بارك الله فيك هذا الذي
قلته لسلطاننا لا يقدر أحد أن يقوله له غيرك، والله أني لأرجو
أن يؤثر ذلك فيه.
ثم كان رحيلي من حضرة إيذج بعد ايام، فنزلت بمدرسة السلاطين
التي بها قبورهم، وأقمت بها أياما، وبعث إلي السلطان بجملة
دنانير، وبعث بمثلها لأصحابي وسافرنا في بلاد هذا السلطان عشرة
ايام في جبال شامخة، وفي كل ليلة تنزل بمدرسة فيها الطعام،
فمنها ما هو في العمارة، ومنها ما لا عمارة حوله ولكن يجلب
إليها جميع ما تحتاج إليه. وفي اليوم العاشر نزلنا بمدرسة تعرف
بمدرسة كريو الرخ، وهي آخر بلاد الملك وسافرنا منها في بسيط من
الأرض كثير المياه من عمالة مدينة أصفهان.
صفحة : 91
ثم وصلنا إلى بلدة أشتركان وضبط اسمها بضم الهمزة وإسكان
الشين المعجم وضم التاء المعلوة وإسكان الراء وآخره نون وهي
بلدة حسنة كثيرة المياه والبساتين، ولها مسجد بديع يشقه النهر.
ثم رحلنا منها إلى مدينة فيروزان، واسمها: كأنه تثنية فيروز،
وهي مدينة صغيرة ذات أنهار وأشجار وبساتين وصلناها بعد صلاة
العصر فرأينا أهلها قد خرجوا لتشييع جنازة، وقد أوقدوا خلفها
وأمامها المشاعل، وأتبعوها بالمزامير والمغنين بأنواع ألأغاني
المطربة، فعجبنا من شأنهم، وبتنا بها ليلة. ومررنا بالغد بقرية
يقال لها نبلان، وهي كبيرة على نهر عظيم، وإلى جانبه مسجد على
النهاية من الحسن، تصعد إليه في درج، وتحفه البساتين. وسرنا
يومنا فيما بين البساتين والمياه والقرى الحسان وأبراج الحمام،
ووصلنا بعد العصر إلى مدينة أصفهان من عراق العجم واسمها بقال
بالفاء الخالصة ويقال بالفاء المعقودة المفخمة ، ومدينة
أصفهان من كبار المدن وحسانها إلا أنها الآن قد خرب أكثرها
بسبب الفتنة الي بين أهل السنة والروافض، وهي متصلة بينهم حتى
الآن، فلا يزالون في قتال وبها الفواكه الكثيرة، ومنها المشمش
الذي لا نظير له، يسمونه بقمر الدين، وهم ييبسونه ويدخرونه،
ونواه ينكسر عن لوز حلو، ومنها السفرجل الذي لامثيل له في طيب
المطعم وعظم الجرم، والأعناب الطيبة، والبطيخ العجيب الشأن
الذي لا مثيل له في الدنيا إلا ما كان من بطيخ بخارى وخوارزم،
وقشره أخضر، وداخله أحمر ويدخر كما تدخر الشريحة بالمغرب، وله
حلاوة شديدة ومن لم يكن ألف أكله فإنه أول أمره يسهله وكذلك
أتفق لي ما أكلته بأصفهان وأهل أصفهان حسان الصور وألوانهم بيض
زاهرة، مشوبة بالحمرة والغالب عليهم الشجاعة والنجدة، وفيهم
كرم وتنافس عظيم فيما بينهم في الأطعمة تؤثر عنهم فيه أخبار
غريبة، وربما دعا أحدهم صاحبه فيقول له: اذهب معي لنأكل نان
وماس، والنان بلسانهم الخبز والماس اللبن فإذا ذهب معه أطعمه
أنواع الطعام العجيب مباهيا له بذلك وأهل كل صناعة يقدمون على
أنفسهم كبيرا منهم يسمونه الكلو وكذلك كبار المدينة من غير أهل
الصناعات وتكون الجماعة من الشبان الأعزاب، وتفاخر تلك
الجماعات، ويضيف بعضهم بعضا مظهرين لما قدروا عليه من الإمكان،
محتفلين في الأطعمة وسواها الاحتفال العظيم، ولقد ذكر لي أن
طائفة منهم أضافت أخرى، فطبخوا طعامهم بنار الشمع ثم أضافتها
الأخرى فطبخوا طعامهم بالحرير. وكان نزولي بأصفهان في زاوية
تنسب للشيخ علي بن سهل تلميذ الجنيد، وهي معظمة بقصدها أهل تلك
الآفاق، ويتبركون بزيارتها وفيها الطعام للوارد والصادر وبها
حمام عجيب مفروش بالرخام وحيطانه بالقاشاني وهو موقوف في
السبيل لا يلزم أحدا في دخوله شيء وشيخ هذه الزاوية الصالح
العابد الورع قطب الدين حسين ابن الشيخ الصالح ولي الله شمس
الدين محمد بن محمود ابن علي المعروف بالرجاء، وأخوه العالم
المفتي شهاب الدين أحمد أقمت عند الشيخ قطب الدين بهذه الزاوية
أربعة عشر يوما، فرأيت من اجتهاده في العبادة وحبه في الفقراء
والمساكين وتواضعه لهم ما قضيت منه العجب وبالغ في إكرامي
وأحسن ضيافتي وكساني كسوة حسنة وساعة وصولي الزاوية بعث إلي
بالطعام وبثلاث بطيخات من البطيخ الذي وصفناه آنفا، ولم أكن
رأيته قبل ولا أكلته.
صفحة : 92
كرامة لهذا الشيخ: دخل علي يوما بموضع نزولي من الزاوية، وكان
ذلك الموضع يشرف على بستان للشيخ، وكانت ثيابه قد غسلت في ذلك
اليوم، ونشرت في البستان، ورأيت في جملتها جبة بيضاء مبطنة،
تدعى عندهم هزرميخي، فأعجبتني، وقلت في نفسي: مثل هذه كنت أريد
فلما دخل علي الشيخ نظر في ناحية البستان، وقال لبعض خدامه،
ائتني بذلك الثوب الهزرميخي، فأتوا به فكساني إياه فأهويت إلى
قدميه أقبلهما، وطلبت منه أن يلبسني طاقية من رأسه ويجيزني في
ذلك بما أجازه والده عن شيوخه، فألبسني إياه في الرابع عشر
لجمادى الأخيرة سنة سبع وعشرين وسبعمائة، بزاويته المذكورة،
كما لبس من والده شمس الدين، ولبس والده من أبيه تاج الدين
محمود، ولبس محمود من أبيه شهاب الدين علىالرجاء، ولبس علي من
الإمام شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي،
ولبس عمر من الشيخ الكبير ضياء الدين أبي النجيب السهروردي،
ولبس أبو النجيب من عمه الإمام وحيد الدين عمر، ولبس عمر من
والده محمد ابن عبد الله المعروف بعمويه، ولبس محمد من الشيخ
أخي فرج الزنجاني، ولبس أخو فرج من الشيخ أحمد الدينوري، ولبس
أحمد من الإمام ممشاد الدينوري، ولبس ممشاد من الشيخ المحقق
علي بن سهل الصوفي، ولبس علي بن أبي القاسم الجنيد، ولبس
الجنيد من سري السقطي، ولبس سري السقطي من داود الطائي، ولبس
داود من الحسن ابن أبي الحسن البصري، ولبس الحسن ابن أبي الحسن
البصري من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. قال ابن جزي: هكذا
أورد الشيخ أبو عبد الله هذا السند، والمعروف فيه أن سريا
السقطي صحب معروفا الكرخي، وصحب معروف داود الطائي، وكذلك داود
الطائي بينه وبين الحسن حبيب العجمي، وأخوه فرج الزنجاني إنما
المعروف أنه صحب أبا العباس النهاوندي، وصحب النهاوندي أبا عبد
الله بن خفيف، وصحب ابن خفيف أبا محمد وربما صحب روبم أبا
القاسم الجنيد وأما محمد بن عبد الله عمويه فهو الذي صحب الشيخ
أحمد الدينوري الأسود، وليس بينهما أحد والله أعلم والذي صحب
أخا فرج الزنجاني هو عبد الله بن ابن محمد بن عبد الله والد
أبي النجيب.
صفحة : 93
ثم سافرنا من أصفهان بقصد زيارة الشيخ مجد الدين بشيراز
وبينهما مسيرة عشرة ايام فوصلنا إلى بلدة كليل، وضبطها بفتح
الكاف وكسر اللام وياء مد وبينها وبين أصفهان مسيرة ثلاثة وهي
بلدة صغيرة ذات أنهار وبساتين وفواكه، ورأيت التفاح يباع في
سوقها خمسة عشر رطلا عراقيا بدرهم، ودرهمهم ثلث النقرة ونزلنا
منها بزاوية عمرها كبير هذه البلدة المعروف بخواجه كافي، وله
مال عريض قد اعانه الله على إنفاقه في سبيل الخيرات من الصدقة
وعمارة الزوايا وإطعام الطعام لأبناء السبيل ثم سرنا من كليل
يومين ووصلنا إلى قرية كبيرة تعرف بصوماء، وبها زاوبة فيها
الطعام للوارد والصادر عمرها خواجة كافي المذكور، ثم سرنا منها
إلى يزدخاص وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف واسكان الزاي
وضم الدال المهمل وخاء معجم والف وصاد مهمل ، بلدة صغيرة
متقنة العمارة حسنة السوق: والمسجد الجامع بها عجيب مبني
بالحجارة مسقف بها والبلدة على صفة خندق فيه بساتينها ومياهها،
وبخارجها رباط ينزل به المسافرون، عليه باب حديد، وهو في
النهاية من الحصانة والمنعة، وبداخله حوانيت يباع فيها كل ما
يحتاجه المسافرون. وهذا الرباط عمره الأمير محمد شاه ينجو،
والد السلطان أبي إسحاق ملك شيراز، وفي يزدخاص يصنع الجبن
اليزد خاصي، ولا نظير له في طيبه وزن الجبنة منه من أوقيتين
إلى أربع، ثم سرنا منها على طريق دشت الروم، وهي صحراء يسكنها
الأتراك. ثم سافرنا إلى مايين واسمها بياءين مسفولتين أولاهما
مكسورة وهي بلدة صغيرة كثيرة الأنهار والبساتين حسنة الأسواق،
وأكثر أشجارها الجوز. ثم سافرنا منها إلى مدينة شيراز، وهي
مدينة أصلية البناء فسيحة الأرجاء شهيرة الذكر منيفة القدر،
لها البساتين المونقة والأنهار المتدفقة والأسواق البديعة
والشوارع الرفيعة وهي كثيرة العمارة متقنة المباني عجيبة
الترتيب وأهل كل صناعة في سوقها لا يخالطهم غيرهم حسان الصور
نظاف الملابس وليس في المشرق بلدة تداني مدينة دمشق في حسن
أسواقها وبساتينها وأنهارها وحسن صور ساكنيها الا شيراز، وهي
في بسيط من الأرض تحف فيها البساتين من جميع الجهات، وتشقها
خمسة أنهار، أحدها النهر المعروف بركن آباد وهو عذب الماء شديد
البرودة في الصيف، سخن في الشتاء فينبعث من عين في سفح جبل
هنالك يسمى القليعة ومسجدها الأعظم يسمى بالمسجد العتيق، وهو
أكبر المساجد ساحة وأحسنها بناء، وصحنه متسع مفروش بالمرمر،
ويغسل في أوان الحر كل ليلة ويجتمع فيه كبار أهل المدينة كل
عشية ويصلون به المغرب والعشاء وبشماله باب يعرف بباب حسن،
يفضي إلى سوق الفاكهة وهي من أبداع الأسواق، وأنا أقول
بتفضيلها على باب البريد من دمشق. وأهل شيراز أهل صلاح ودين
وعفاف، وخصوصا نساؤها وهن يلبسن الخفاف، ويخرجن ملتحفات
متبرقعات فلا يظهر منهم شيء ولهن الصدقات والإيثار، ومن غريب
حالهن أنهن يجتمعن لسماع الواعظ في كل يوم اثنين وخميس وجمعة
بالجامع الأعظم، فربما اجتمع منهن الألف والألفان بأيديهن
المراوح، يروحن بها على أنفسهن من شدة الحر. ولم أر اجتماع
النساء في مثل عددهن في بلدة من البلاد. وعند دخولي إلى مدينة
شيراز لم يكن لي هم الا قصد الشيخ القاضي الإمام قطب الأولياء
فريد الدهر ذي الكرامات الظاهرة مجد الدين اسماعيل بن محمد بن
خداد، ومعنى خداد عطية الله فوصلت إلى المدرسة المجدية
المنسوبة إليه وبها سكناه، وهي من عمارته، فدخلت إليه رابع
أربعة من أصحابي، ووجدت الفقهاء وكبار أهل المدينة في انتظاره
فخرج إلى صلاة العصر ومعه محب الدين وعلاء الدين ابنا أخي
شقيقه روح الدين أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وهما نائباه
في القضاء لضعف بصره وكبر سنه فسلمت عليه وعانقني وأخذ بيدي
إلى أن وصل إلى مصلاه، فأرسل يدي وأومأ إلي أن أصلي إلى جانبه
ففعلت وصلى العصر ثم قرئ بين يديه من كتاب المصابيح وشوارق
الأنوار للصاغاني، وطالعه نائباه بما جرى لديهما من القضايا،
وتقدم كبار المدينة للسلام عليه، وكذلك عادتهم معه صباحا ومساء
ثم سألني عن حالي وكيفية قدومي، وسألني عن المغرب ومصر والشام
والحجاز فأخبرته بذلك وأمر خدامه فأنزلوني بدويرة صغيرة
بالمدرسة وفي غد ذلك اليوم وصل إليه رسول ملك العراق السلطان
أبي سعيد وهو ناصر الدين الدرقندي من كبار الأمراء، خراساني
الأصل.
صفحة : 94
فعند وصوله إليه نزع شاشيته عن رأسه، وهم يسمونها الكلا، وقبل
رجل القاضي، وقعد بين يديه، ممسكا أذن نفسه بيده، وهكذا فعل
أمراء التتر عند ملوكهم. وكان هذا الأمير قد قدم في نحو
خمسمائة فارس من مماليكه وخدامه وأصحابه ونزل خارج المدينة،
ودخل إلى القاضي في خمسة نفر، ودخل مجلسه وحده منفردا
متأدبا.فعند وصوله إليه نزع شاشيته عن رأسه، وهم يسمونها الكلا،
وقبل رجل القاضي، وقعد بين يديه، ممسكا أذن نفسه بيده، وهكذا
فعل أمراء التتر عند ملوكهم. وكان هذا الأمير قد قدم في نحو
خمسمائة فارس من مماليكه وخدامه وأصحابه ونزل خارج المدينة،
ودخل إلى القاضي في خمسة نفر، ودخل مجلسه وحده منفردا متأدبا.
حكاية هي السبب في تعظيم هذا الشيخ وهي من الكرامات الباهرة
كان ملك العراق السلطان محمد خدابنده قد صحبه في حال كفره
فقيه من الروافض الإمامية يسمى جمال الدين بن مطهر. فلما أسلم
السلطان المذكور وأسلمت بإسلامه التتر، زاد في تعظيم هذا
الفقيه. فزين له مذهب الروافض وفضله في غيره. وشرح له حال
الصحابة والخلافة، وقرر لديه أن أبا بكر وعمر كانا وزيرين
لرسول الله، وأن عليا ابن عمه وصهره، فهو وارث الخلافة، ومثل
له ذلك بما هو مألوف عنده من أن الملك الذي بيده إنما هو إرث
عن أجداده وأقاربه مع حداثة عهد السلطان بالكفر، وعدم معرفته
بقواعد الدين. فأمر السلطان بحمل الناس على الرفض، وكتب بذلك
إلى العراقين وفارس وأذربيجان وأصفهان وكرمان وخراسان، وبعث
الرسل إلى البلاد، فكان أول بلاد وصل إليها بغداد وشيراز
وأصفهان. فأما أهل بغداد فامتنع أهل باب الأزج منهم وهم أهل
السنة وأكثرهم على مذهب الامام أحمد بن حنبل، وقالوا لا سمع
ولا طاعة. وأتوا المسجد الجامع في يوم الجمعة ومعهم السلاح وبه
رسول السلطان، فلما صعد الخطيب المنبر قاموا إليه وهم اثنا عشر
ألفا من سلاحهم، وهم حماة بغداد والمشار إليهم فيها. فحلفوا له
أنه إن غير الخطبة المعتادة، إن زاد فيها أو نقص منها، فإنهم
قاتلوه، وقاتلو رسول الملك ومستسلمون بعد ذلك لما شاءه الله.
وكان السلطان أمر بأن تسقط أسماء الخلفاء وسائر الصحابة من
الخطبة، ولا يذكر إلا اسم علي ومن تبعه كعمار رضي الله عنهم.
فخاف الخطيب من القتل، وخطب الخطبة المعتادة. وفعل أهل شيراز
وأصفهان كفعل أهل بغداد. فرجعت الرسل إلى الملك فأخبروه بما
جرى في ذلك فأمر أن يؤتى بقضاة المدن الثلاث. فكان أول من أتي
به منهم القاضي مجد الدين قاضي شيراز والسلطان إذ ذاك في موضع
يعرف بقراباغ، وهو موضع مصيفه. فلما وصل القاضي أمر أن يرمي به
إلى الكلاب التي عنده، وهي كلاب ضخام في أعناقها السلاسل معدة
لأكل بني آدم. فإذا أوتي بمن يسلط عليه الكلاب جعل في رحبة
كبيرة مطلقا غير مقيد، ثم بعثت تلك الكتاب عليه فيفر أمامها
ولا مفر له، فتدركه فتمزقه، وتأكل لحمه. فلما أرسلت الكلاب على
القاضي مجد الدين ووصلت إليه، بصبصت إليه وحركت أذنابها بين
يديه، ولم تهجم عليه بشيء، فبلغ ذلك السلطان، فخرج من داره
حافي القدمين فأكب على رجل القاضي يقبلهما، وأخذ بيده وخلع
عليه جميع ما كان عليه من الثياب، وهي أعظم كرامات السلطان
عندهم، وإذا خلع ثيابه كذلك على أحد، كانت شرفا له ولبنيه
وأعقابه يتوارثونه، ما دامت تلك الثياب أو شيء منها، وأعظمها
في ذلك السراويل. ولما خلع السلطان ثيابه على القاضي مجد الدين
أخذ بيده وأدخله إلى داره وأمر نساءه بتعظيمه والتبرك به. ورجع
السلطان عن مذهب الرفض، وكتب إلى بلاده ان يقر الناس على مذهب
أهل السنة والجماعة، وأجزل العطاء للقاضي وصرفه إلى بلاده
مكرما معظما، وأعطاه في جملة عطاياه مائة قرية من قرى جمكان،
وهو خندق بين جبلين طوله أربعة وعشرون فرسخا، يشقه نهر عظيم.
القرى منتظمة بجانبيه، وهو أحس موضع بشيراز. ومن قراه العظيمة
التي تضاهي المدن قرية ميمن ، وهي للقاضي المذكور. ومن عجائب
هذا الموضع المعروف بجمكان أن نصفه مما يلي شيراز وذلك مسافة
اثني عشر فرسخا شديد البرد وينزل فيه الثلج وأكثر شجره الجوز،
والجزء الآخر مما يلي بلاد هنج وبال وبلاد اللار في طريق هرمز
شديد الحر وفيه شجر النخيل.
صفحة : 95
وقد تكرر لي لقاء القاضي مجد الدين ثانية حين خروجي من الهند.
قصدته من هرمز متبركا بلقائه، وذلك سنة ثمان وأربعين. وبين
هرمز وشيراز مسيرة خمسة وثلاثين يوما. فدخلت عليه وهو قد ضعف
عن الحركة، فسلمت عليه فعرفني وقام إلي فعانقني ووقعت يدي على
مرفقه، وجلده لاصق بالعظم لا لحم بينهما. وأنزلني بالمدرسة حيث
أنزلني أول مرة. وزرته يوما فوجدت ملك شيراز السلطان أبا
إسحاق، وسيقع ذكره، قاعدا بين يديه، ممسكا بإذن نفسه، وذلك هو
غاية الأدب عندهم، ويفعله الناس إذا قعدوا بين يدي الملك.
وأتيت مرة أخرى إلى المدرسة، فوجدت بابها مسدودا. فسألت عن سبب
ذلك فأخبرت أن أم السلطان وأخته نشأت بينهما خصومة في ميراث،
فصرفهما إلى القاضي مجد الدين. فوصلتا إليه إلى المدرسة،
وتحاكمتا عنده. وفصل بينهما بواجب الشرع. وأهل شيراز لا يدعونه
بالقاضي، وإنما يقولون له مولانا أعظم. وكذلك يكتبون في
التسجيلات والعقود التي تفتقر إلى ذكر اسمه فيها. وكان آخر
عهدي به في شهر ربيع الثاني من عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.
ولاحت علي أنواره وظهرت لي بركاته نفع الله به وبأمثاله.
ذكر سلطان شيراز
وسلطان شيراز في عهد قدومي عليها الملك الفاضل أبو إسحاق بن
محمد شاه ينجو سماه أبوه باسم الشيخ أبي إسحاق الكازروني نفع
الله به. وهو من خيار السلاطين، حسن الصورة والسيرة والهيئة،
كريم النفس جميل الأخلاق متواضع، صاحب قوة وملك كبير. وعسكره
ينيف على خمسين ألفا من الترك والأعاجم، وبطانته الادنون إليه
أهل أصفهان. وهو لا يأتمن أهل شيراز على نفسه، ولا يستخدمهم
ولا يقربهم ولا يبيح لأحد منهم حمل السلاح، لأنهم أهل نجدة
وبأس شديد وجرأة على الملوك. ومن وجد بيده السلاح منهم عوقب.
ولقد شاهدت رجلا مرة تجره الجنادرة، وهم الشرط إلى الحاكم، وقد
ربطوه في عنقه. فسألت عن شأنه، فأخبرت أنه وجدت في يده قوس
بالليل. فذهب السلطان المذكور إلى قهر أهل شيراز وتفضيل
الأصفهانيين عليهم، لأنه يخافهم على نفسه. وكان أبوه محمد شاه
ينجو واليا على شيراز من قبل ملك العراق، وكان حسن السيرة
محببا إلى أهلها. فلما توفي ولى السلطان أبو سعيد مكانه الشيخ
حسينا، وهو ابن الجويان أمير الأمراء، وسيأتي ذكره، وبعث معه
العساكر الكثيرة، فوصل إلى شيراز وملكها وضبط مجابيها. وهي من
أعظم بلاد الله مجبى.
صفحة : 96
ذكر لي الحاج قوام الدين الطمغجي، وهو والي المجبى بها، أنه
ضمنها بعشرة آلاف دينار دراهم في كل يوم. وصرفها من ذهب المغرب
ألفان وخمسمائة دينار ذهبا. وأقام بها الأمير حسين مدة ثم أراد
القدوم على ملك العراق، فقبض على أبي إسحاق بن محمد شاه ينجو،
وعلى أخويه ركن الدين ومسعود بك وعلى والدته طاش خاتون، وأراد
حملهم إلى العراق ليطالبوا بأموال أبيهم فلما توسطوا السوق
بشيراز كشفت طاش خاتون وجهها وكانت متبرقعة حياء ان ترى في تلك
الحال. فإن عادة نساء الأتراك أن لا يغطين وجوههن، واستغاثت
بأهل شيراز، وقالت: أهكذا يا أهل شيراز أخرج من بينكم وأنا
فلانة زوجة فلان ? فقام رجل من النجارين يسمى بهلوان محمود، قد
رأيته بالسوق حين قدومي على شيراز فقال: لا نتركها تخرج من
بلدنا، ولا نرضى بذلك. فتابعه الناس على قوله وثارت عامتهم
ودخلوا في السلاح وقتلوا كثيرا من العسكر وأخذوا الأموال
وخلصوا المرأة وأولادها. وفر الأمير حسين ومن معه وقدم على
السلطان أبي سعيد مهزوما، فأعطاه العساكر الكثيفة وأمره
بالعودة إلى شيراز والتحكم في أهلها بما شاء. فلما بلغ أهلها
ذلك، علموا أنهم لا طاقة لهم به فقصدوا القاضي مجد الدين،
وطلبوا منه أن يحقن دماء الفريقين ويوقع الصلح، فخرج إلى
الأمير حسين. فترجل له الأمير عن فرسه وسلم عليه ووقع الصلح.
ونزل الأمير حسين ذلك اليوم خارج المدينة. فلما كان من الغد
برز أهلها للقائه في أجمل ترتيب وزينوا البلد وأوقدوا الشمع
الكثير، ودخل الامير حسين في أبهة وحفل عظيم وسار فيهم بأحسن
سيرة. فلما مات السلطان أبو سعيد وانقرض عقبه، وتغلب كل أمير
على ما بيده، خافهم الأمير حسين على نفسه وخرج عنهم، وتغلب
السلطان أبو اسحاق عليها وعلى أصفهان وبلاد فارس، وذلك مسيرة
شهر ونصف شهر. واشتدت شوكته وطمحت همته إلى تملك ما يليه من
البلاد، فبدأ بالأقرب منها وهي مدينة بزد، مدينة حسنة نظيفة
عجيبة الأسواق ذات أنهار مطردة وأشجار نضيرة وأهلها تجار
شافعية المذهب؛ فحاصرها وتغلب عليها وتحصن الأمير مظفر شاه ابن
الأمير محمد شاه بن مظفر بقلعة على ستة أميال منها منيعة، تحدق
بها الرمال فحاصره بها. فظهر من الأمير مظفر من الشجاعة ما خرق
المعتاد، ولم يسمع بمثله. فكان يضرب على عسكر السلطان أبي
إسحاق ليلا، ويقتل ما شاء، ويخرق المضارب والفساطيط، ويعود إلى
قلعته فلا يقدر على النيل منه. وضرب ليلة على دوار السلطان
وقتل هنالك جماعة وأخذ من عتاق خيله عشرة وعاد إلى قلعته. فأمر
السلطان أن تركب في كل ليلة خمسة آلاف فارس ويصنعون له
الكمائن. وتلاحقت العساكر فقاتلهم، وخلص إلى قلعته ولم يصب من
أصحابه إلا واحدا أتى به إلى السلطان أبي إسحاق فخلع عليه
وأطلقه وبعث معه أمانا لمظفر لينزل إليه فأبى ذلك. ثم وقعت
بينهما المراسلة ووقعت له محبة في قلب السلطان أبي إسحاق لما
رأى من شجاعته. فقال: أريد أن أراه، فإذا رأيته انصرفت عنه.
فوقف السلطان في خارج القلعة ووقف هو ببابها، وسلم عليه فقال
له السلطان: إنزل على الأمان. فقال له مظفر: إني عاهدت الله أن
لا أنزل إليك حتى تدخل أنت قلعتي وحينئذ أنزل إليك، فقال له
أفعل ذلك. فدخل إليه السلطان في عشرة من أصحاب الخواص.
فلما وصل باب القلعة ترجل مظفر وقبل ركابه ومشى بين يديه
مترجلا، فأدخله داره وأكل من طعامه ونزل معه إلى المحلة راكبا،
فأجلسه السلطان إلى جانبه، وخلع عليه ثيابه وأعطاه مالا عظيما،
ووقع الاتفاق بينهما ان تكون الخطبة باسم السلطان أبي إسحاق،
وتكون البلاد لمظفر وأبيه. وعاد السلطان إلى بلاده.
صفحة : 97
وكان السلطان أبو إسحاق طمح ذات مرة إلى بناء إيوان كإيوان
كسرى وأمر أهل شيراز أن يتولوا حفر أساسه. فأخذوا في ذلك. وكان
أهل كل صناعة يباهون من عداهم، فانتهوا في المباهاة إلى ان
صنعوا القفاف لنقل التراب من الجلد، وكسوها ثياب الحرير
المزركش، وفعلوا نحو ذلك في براذع الدواب، وإخراجها، وصنع
بعضهم الفؤوس من الفضة، وأوقدوا الشمع الكثير. وكانوا حين
الحفر يلبسون أجمل ملابسهم، ويربطون فوط الحريرعلى أوساطهم.
والسلطان يشاهد أفعالهم من منظرة له. وقد شاهدت هذا المبنى وقد
ارتفع عن الأرض نحو ثلاثة أذرع. ولما بني أساسه رفع عن أهل
المدينة التخديم فيه، وصارت القعلة تخدم فيه بالأجرة، ويحشر
لذلك آلاف منهم. وسمعت والي المدينة يقول إن معظم مجباها ينفق
في ذلك البناء. وقد كان الموكل به الأمير جلال الدين بن الفلكي
التوريزي، وهو من الكبار. كان أبوه نائبا عن وزير السطان أبي
سعيد المسمى علي شاه جيلان. ولهذا الأمير جلال الدين الفلكي أخ
فاضل اسمه هبة الله، ويلقب بهاء الملك، وفد على ملك الهند حين
وفودي عليه، ووفد معنا شرف الملك أمير يخت، فخلع ملك الهند
علينا جميعا، وقدم كل واحد في شغل يليق به، وعين لنا المرتب
والإحسان، وسنذكر ذلك. وهذا السلطان أبو إسحاق يريد التشبه
بملك الهند المذكور في الإيثار وإجزال العطايا. ولكن أين
الثريا من الثرى. وأظم ماتعارفنا من أعطيات أبي إسحاق أنه اعطى
الشيخ زاده الخراساني الذي أتاه رسولا عن ملك هراة سبعين ألف
دينار. وأما ملك الهند فلم يزل يعطي أضعاف ذلك لمن لا يحصى
كثرة من أهل خراسان وغيرهم.
حكاية
ومن عجيب فعل ملك الهند مع الخراسانيين أنه قدم عليه رجل من
فقهاء خراسان هروي المولد، من سكان خوارزم، يسمى بالأمير عبد
الله، بعثته الخاتون ترابك زوج الأمير قطلود مور صاحب خوارزم
بهدية إلى ملك الهند المذكور، فقبلها وكافأ عنها بأضعافها وبعث
ذلك إليها، واختار رسولها المذكور الإقامة عنده فصيره في
ندمائه فلما كان ذات يوم قال له: ادخل إلى الخزانة فارفع منها
قدر ما تستطيع أن تحمله من الذهب. فرجع إلى داره فأتى بثلاث
عشرة خريطة، وجعل في كل خريطة قدر ما وسعته وربط كل خريطة بعضو
من أعضائه، وكان صاحب قوة وقام بها، فلما خرج من الخزانة وقع
ولم يستطع النهوض. فأمر السلطان بوزن ما خرج به فكان جملته
ثلاثة عشر منا بمنان دهلي، والمن الواحد منها خمسة وعشرون رطلا
مصريا. فأمره أن يأخذ جميع ذلك فأخذه.
حكاية تناسبها
اشتكى مرة أمير يخت الملقب بشرف الدين الخراساني، وهو الذي
تقدم ذكره آنفا بحضرة ملك الهند، فأتاه الملك عائدا. ولما دخل
عليه أراد القيام، فحلف له الملك أن لا ينزل عن كته والكت:
السرير. ووضع للسلطان متكأة يسمونها المورة، فقعد عليها. ثم
دعا بالذهب والميزان فأحضرا. وأمر المريض أن يقعد في إحدى كفتي
الميزان، فقال يا خوند عالم لو علمت أنك تفعل هذا للبست علي
ثيابا كثيرة. فقال له البس الآن جميع ما عندك من الثياب. فلبس
ثيابه المعدة للبرد المحشوة بالقطن، وقعد في كفة الميزان، ووضع
الذهب في الكفة الآخرى حتى رجحه الذهب، وقال له: خذ هذا فتصدق
به على رأسك وخرج عنه.
حكاية تناسبها
وفد عليه الفقير عبد العزيز الأردويلي، وكان قد قرأ علم
الحديث بدمشق، فتفقه فيه. فجعل مرتبه مائة دينار دراهم في
اليوم، وصرف ذلك خمسة وعشرون دينارا ذهبا. وحضر مجلسه يوما،
فسأله السلطان عن حديث، فسرد له أحاديث كثيرة في ذلك المعنى،
فأعجبه حفظه، وحلف له برأسه أنه لا يزول من مجلسه حاى يفعل معه
ما يراه، ثم نزل الملك عن مجلسه، فقبل قدميه وأمر بإحضار صينية
من ذهب، وهي مثل الطيفور الصغير، وأمر أن يؤتى فيها ألف دينار
من الذهب، وأخذها السلطان بيده، فصبها عليه، وقال: هي لك مع
الصينية. ووفد عليه مرة رجل خراساني يعرف بابن الشيخ عبد
الرحمن الأسفراييني، وكان أبوه نزل بغداد، فأعطاه خمسين ألف
دينار دراهم وخيلا وعبيدا وخلعا، وسنذكر كثيرا من أخبار هذا
الملك عند ذكر بلاد الهند. وإنما ذكرنا هذا لما قدمناه من أن
السلطان أبا إسحاق يريد التشبه به في العطايا. وهو وإن كان
كريما فاضلا فلا يلحق بطبقة ملك الهند في الكرم والسخاء.
ذكر
بعض المشاهد بشيراز
صفحة : 98
فمنها مشهد أحمد بن موسى أخي علي الرضا بن موسى بن جعفر بن
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى
عنهم، وهو مشهد معظم عند أهل شيراز يتبركون به، ويتوسلون إلى
الله تعالى بفضله. وبنت عليه طاش خاتون أم السلطان أبي إسحاق
مدرسة كبيرة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر. والقراء
يقرأون القرآن على التربة دائما. ومن عادة الخاتون أنها تأتي
إلى هذا المشهد في كل ليلة اثنين. ويجتمع في تلك الليلة القضاة
والفقهاء والشرفاء. وشيراز من أكثر بلاد الله شرفاء. سمعت من
الثقات أن الذين لهم بها المرتبات من الشرفاء ألف وأربعمائة
ونيف بين صغير وكبير، ونقيبهم عضد الدين الحسيني. فإذا حضر
القوم بالمشهد المذكور ختموا القرآن قراءة في المصاحف، وقرأ
القراء بالأصوات الحسنة، وأتي بالطعام والفواكه والحلواء. فإذا
أكل القوم، وعظ الواعظ. ويكون ذلك كله بعد صلاة الظهر إلى
العشي والخاتون في غرفة مطلة على المسجد لها شباك. ثم ضرب
الطبول والأنفار والبوقات على باب التربة، كما يفعل عند أبواب
الملوك. ومن المشاهد بها مشهد الإمام القطب الولي أبي عبد الله
ابن خفيف المعروف عندهم بالشيخ. وهو قدوة بلاد فارس كلها،
ومشهد معظم عندهم، يأتون إليهم بكره وعشيا، فيتمسحون به. وقد
رأيت القاضي مجد الدين أتاه زائرا واستلمته. وتأتي الخاتون إلى
هذا المسجد في كل ليلة جمعة، وعليه زاوية ومدرسة ويجتمع به
القضاة والفقهاء ويفعلون به كفعلهم في مشهد أحمد بن موسى وقد
حضرت الموضعين جميعا. وتربة الأمير محمد شاه ينجو والد السلطان
أبي إسحاق متصلة بهذه التربة. والشيخ أبو عبد الله بن خفيف
كبير القدر في الأولياء شهير الذكر، وهو الذي أظهر طريق جبل
سرنديب بجزيرة سيلان من أرض الهند.
صفحة : 99
كرامة لهذا الشيخ: يحكى أنه قصد مرة جبل سرنديب ومعه نحو
ثلاثين من الفقراء، فأصابتهم مجاعة في طريق الجيل حيث لاعمارة،
وتاهوا عن الطريق وطلبوا من الشيخ ان يأذن لهم في القبض على
بعض الفيلة الصغار، وهي في ذلك المحل كثيرة جدا، ومنه تحمل إلى
حضرة ملك الهند. فنهاهم الشيخ عن ذلك. فغلب عليهم الجوع،
فتعدوا قول الشيخ، وقبضوا على فيل صغير منها وذكوه وأكلوا
لحمه، وامتنع الشيخ عن أكله، فلما ناموا تلك الليلة اجتمعت
الفيلة من كل ناحية وأتت إليهم. فكانت تشم الرجل منهم وتقتله،
حتى أتت على جميعهم. وشمت الشيخ ولم تتعرض له. وأخذه فيل منها،
ولف عليه خرطومه، ورمى به على ظهره، وأتى به الموضع الذي فيه
العمارة فلما رآه أهل تلك الناحية عجبوا منه واستقبلوه
ليتعرفوا أمره. فلما قرب منهم أمسكه الفيل بخرطومه ووضعه عن
ظهره إلى الأرض بحيث يرونه. فجاءوا إليه وتمسكوا به إلى ملكهم،
فعرفوه خبره وهم كفار، وأقام عندهم أياما. وذلك الموضع على خور
يسمى خور الخيزران، والخور هو النهر. وبذلك الموضع مغاص
الجوهر. ويذكر أن الشيخ غاص في بعض الأيام بمحضر ملكهم وخرج
وقد ضم يديه معا، وقال للملك: اختر مالك في إحداهما. فاختار ما
في اليمنى فرمى إليه بما فيها، وكانت ثلاثة أحجار من الياقوت
لا مثيل لها، وهي عند ملوكهم في التاج يتوارثونها. وقد دخلت
جزيرة سيلان هذه، وهم مقيمون على الكفر، إلا أنهم يعظمون فقراء
المسلمين، ويؤونهم إلى دورهم، ويطعمونهم الطعام، ويكونون في
بيوتهم وبين أهليهم وأولادهم، خلافا لسائر كفار الهند فإنهم لا
يقربون المسلمين، ولا يطعمونهم في آنيتهم، ولا يسقونهم فيها.
مع أنهم لا يؤذونهم ولا يهجونهم. ولقد كنا نضطر إلى أن يطبخ
لنا بعض اللحم، فيأتون به في قدورهم، ويقعدون على بعد منا،
ويأتون بأوراق الموز فيجعلون عليها الأرز وهو طعامهم، ويصبون
عليه الكوشال وهو الإدام، ويذهبون فنأكل منه. وما فضل علينا
تأكله الكلاب والطير. وإن أكل منه الولد الصغير الذي لا يعقل
ضربوه وأطعموه روث البقر، وهو الذي يطهر ذلك في زعمهم. ومن
المشاهد بها مشهد الشيخ الصالح القطب روزجهان القبلي من كبار
الأولياء، وقبره في مسجد جامع يخطب فيه، وبذلك الجامع يصلي
القاضي مجد الدين الذي تقدم ذكره رضي الله عنه. وبهذا الجامع
سمعت عليه كتاب مسند الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس
الشافعي. قال: أخبرتنا به وزيرة بنت عمر بن المنجا، قالت:
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر بن المبارك الزبيدي،
قال: أخبرنا زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، قال: أخبرنا
أبو الحسن المكي بن محمد بن منصور بن علان العرضي، قال: أخبرنا
القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحرشي عن أبي عباس بن يعقوب
ألأصم عن الربيح بن سليمان المرادي عن الإمام أبي عبد الله
الشافعي. وسمعت أيضا عن القاضي مجد الدين بهذا الجامع المذكور
كتاب مشارق الأنوار للإمام رضي الله أبي الفضائل الحسن بن محمد
بن الحسن الصاغاني بحق سماعه له من الشيخ جلال الدين أبي هاشم
محمد بن محمد بن أحمد الهاشمي الكوفي بروايته عن الإمام نظام
الدين محمود بن عمر الهراوي عن المصنف. ومن المشاهد بها مشهد
الشيخ الصالح زركوب، وعليه زاوية لإطعام الطعام.
وهذه المشاهد كلها بداخل المدينة، وكذلك معظم قبور أهلها، فإن
الرجل منهم يموت ولده أو زوجته، فيتخذ له تربة من بعض بيوت
داره، ويدفنه هناك، ويفرش البيت بالحصر والبسط، ويجعل الشمع
الكثير عند رأس الميت ورجليه ويصنع للبيت بابا إلى ناحية
الزقاق وشباك حديد، فيدخل منه القراء يقرأون بالأصوات الحسان.
وليس في معمور الأرض أحسن أصواتا بالقرآن من أهل شيراز. ويقوم
أهل الدار بالتربة ويفرشونها ويوقدون السرج بها. فكأن الميت لم
يبرح. وذكر لي أنهم يطبخون في كل يوم نصيب الميت من الطعام
ويتصدقون به عنه.
حكاية
صفحة
: 100
مررت يوما ببعض أسواق مدينة شيراز، فرأيت بها مسجدا متقن
البناء جميل الفرش، وفيه مصاحف موضوعة في خرائط حرير موضوعة
فوق كرسي، وفي الجهة الشمالية من المسجد زاوية فيها شباك مفتح
إلى جهة السوق وهنالك شيخ جميل الهيئة والباس، وبين يديه مصحف
يقرأ فيه فسلمت عليه وجلست إليه فسألني عن مقدمي فأخبرته،
وسألته عن شأن هذا المسجد فأخبرني أنه هو الذي عمره ووقف عليه
أوقافا كثيرة للقراء وسواهم، وأن تلك الزاوية ألتي جلست إليه
فيها هي موضع قبره إن قضى الله موته بتلك المدينة، ثم رفع بسطا
كان تحته، والقبر مغطى عليه ألواح خشب، وأراني صندوقا كان
بإزائه، فقال: في هذا الصندوق كفني وحنوطي ودراهم كنت استأجرت
بها نفسي في حفر بئر لرجل صالح فدفع لي هذه الدراهم، فتركتها
لتكون نفقة مواراتي وما فضل منها يتصدق بها فعجبت من شأنه
وأردت الانصراف فحلف علي وأضافني بذلك الموضع. ومن المشاهد
بخارج شيراز قبر الشيخ الصالح المعروف السعدي وكان أشعر أهل
زمانه باللسان الفارسي، وربما ألمع في كلامه بالعربي وله زاوية
كان قد عمرها بذلك الموضع حسنة، بداخلها بستان مليح وهي بقرب
رأس النهر الكبير المعروف بركن أباد وقد صنع الشيخ هنالك
أحواضا صغارا من المرمر لغسل الثياب فيخرج الناس من المدينة
لزيارته ويأكلون من سماطه ويغسلون ثيابهم بذلك النهر،
وينصرفون. وكذلك فعلت عنده رحمه الله. وبمقربة من هذه الزاوية
زاوية أخرى تتصل بها مدرسة مبنية على قبر شمس الدين السماني،
وكان من الأمراء الفقهاء، ودفن هنالك بوصية منه بذلك.
وبمدينة شيراز من الفقهاء الشريف مجد الدين وأمره في الكرم
عجيب، وربما جاد بكل ما عنده وبالثياب التي كانت عليه، ويلبس
مرقعة فيدخل عليه كبراء المدينة فيجدونه على تلك الحال
فيكسونه. ومرتبه في كل يوم من السلطان خمسون دينارا دراهم. ثم
كان خروجي من شيراز برسم زيارة قبر الشيخ الصالح أبي إسحاق
الكازروني بكازرون، وهي على مسيرة يومين من شيراز، فنزلنا أول
يوم ببلاد الشول، وهم طائفة من الأعاجم يسكنون البرية وفيهم
الصالحون.
أضف تعليق:
0 comments: