قال
الشيخ الفقيه العالم الثقة الناسك الأبر وفد الله المعتمر شرف الدين المعتمد في
سياحته على رب العالمين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم
اللواتي ثم الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله ورضي عنه وكرمه آمين.
الحمد
لله الذي ذلل الأرض لعباده ليسلكوا منها سبلا فجاجا، وجعل منها وإليها تاراتهم
الثلاث نباتا وإعادة وإخراجا. دحاها بقدرته فكانت مهادا للعباد، وأرساها
بالأعلام الراسيات والأطواد، ورفع فوقها سمك السماء بغير عماد، وأطلع الكواكب
هداية في ظلمات البر والبحر. وجعل القمر نورا والشمس سراجا، ثم أنزل من السماء
ماء فأحيا به الأرض بعد الممات. وأنبت فيها من كل الثمرات. وفطر أقطارها بصنوف
النبات، وفجر البحرين عذبا فراتا، وملحا أجاجا، وأكمل على خلقه الإنعام بتذليل
مطايا الأنعام، وتسخير المنشئات كالأعلام لتمتطوا من صهوة القفر ومتن البحر
أثباجا. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد الذي أوضح للخلق منهاجا. وطلع نور
هدايته وهاجا. بعثه الله تعالى رحمة للعالمين واختاره خاتما للنبيين وأمكن
صوارمه من رقاب المشركين حتى دخل الناس في دين الله أفواجا، وأيده بالمعجزات
الباهرات، وأنطق بتصديقه الجمادات، وأحيا بدعوته الذمم الباليات، وفجر من بين
أنامله ماء ثجاجا. ورضي الله تعالى عن المتشرفين بالانتماء إليه أصحابا وآلا
وأزواجا، المقيمين تقاة الدين فلا تخشى بعدهم اعوجاجا، فهم الذين آزروه على
جهاد الأعداء، وظاهروه على إظهار الملة البيضاء، وقاموا بحقوقها الكريمة من
الهجرة والنصرة والإيواء، واقتحموا دونه نار اليأس حامية، وخاضوا بحر الموت
عجاجا، ونستوهب الله تعالى لمولانا الإمام الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على
رب العالمين المجاهد في سبيل الله المؤيد بنصر الله - أبي عنان فارس ابن
موالينا الأئمة المهتدين الخلفاء الراشدين نصرا يوسع الدنيا وأهلها ابتهاجا،
وسعدا يكون لزمانة الزمان علاجا، كما وهبه الله بأسا وجودا لم يدع طاغيا ولا
محتاجا، وجعل بسيفه وسيبه لكل ضيقة انفراجا. وبعد، فقد قضت العقول، وحكم
المعقول والمنقول، بأن هذه الخلافة العلية، المجاهدة المتوكلة الفاسية. هي ظل
الله الممدود على الأنام، وحبله الذي به الاعتصام، وفي سلك طاعته يجب الانتظام،
فهي التي أبرأت الدين عند اعتلاله، وأغمدت سيف العدوان عند انسلاله، وأصلحت
الأيام بعد فسادها، ونفقت سوق العلم بعد كسادها، وأوضحت طرق البر عند انتهاجها،
وسكنت أقطار الأرض عند ارتجاجها، وأحيت سنن المكارم بعد مماتها، وأماتت رسوم
المظالم بعد حياتها، وأخمدت نار الفتنة عند اشتعالها، وأنقضت حكام البغي عند
استقلالها، وشادت مباني الحق على عماد التقوى، واستمسكت من التوكل على الله
بالسبب الأقوى، فلها العز الذي عقد تاجه على مفرق الجوزاء، والمجد الذي جر
أذياله على مجرة السماء، والسعد الذي رد على الزمان غض شبابه، والعدل الذي على
أهل الإيمان مد يد أطنابه، والجود الذي قطر سحابه اللجين والنضار، والبأس الذي
فيه غمامة الدر الموار، والنصر الذي تفض كتائبه الأجل، والتأييد الذي بعض
غنائمه الدول، والبطش الذي سبق سيفه العذل، والأناة التي لا يمل عندها الأمل،
والحزم الذي يسد على الأعداء وجوه المسارب، والعزم الذي يفل جموعها قبل قراع
الكتائب، والحلم الذي يجني العفو من ثمر الذنوب، والرفق الذي جمع على محبته
بنات القلوب، والعلم الذي يجلو نوره دياجي المشكلات والعمل المفيد بالإخلاص
والأعمال بالنيات.
صفحة : 2
ولما كانت حضرته
العلية: مطمح الآمال، ومسرح همم الرجال، ومحط رحال الفضائل، ومثابة أمن الخائف،
ومنية السائل، توخى الزمان خدمتها ببدائع تحفه، ورائع طرفه، فانثال عليها
العلماء انثيال جودها على الصفات، وتسابق إليها الأدباء تسابق عزماتها إلى
العداة، وحج العارفون حرمها الشريف، وقصد السائحون استطلاع معناها المنيف، ولجأ
الخائفون إلى الامتناع بعز جنابها، واستجارت الملوك بخدمة أبوابها، فهي القطب
الذي عليه مدار العالم، وفي القطع بتفضيلها تساوت بديهة عقل الجاهل والعالم،
وعن مآثرها الفائقة يسند صحاح الآثار كل مسلم، وبإكمال محاسنها الرائقة يفصح كل
معلم، وكان ممن وفد على بابها السامي، وتعدى أوشال البلاد إلى بحرها الطامي،
الشيخ الفقيه السائح الثقة الصدوق، جوال الأرض، ومخترق الأقاليم بالطول والعرض،
أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي المعروف بابن بطوطة
المعروف في البلاد الشرقية بشمس الدين، وهو الذي طاف الأرض معتبرا، وطوى
الأمصار مختبرا، وباحث فرق الأمم، وسبر سير العرب والعجم، ثم ألقى عصا التسيار
بهذه الحضرة العليا، لما علم أن لها مزية الفضل دون شرط ولا ثنيا، وطوى المشارق
إلى مطلع بدرها بالغرب، وآثرها على الأقطار إيثار التبر على الترب، اختيارا بعد
طول اختبار البلاد والخلق، ورغبة اللحاق بالطائفة المثلى، التي على الحق فغمره
من إحسانه الجزيل، وامتنانه الحفي الحفيل، ما أنساه الماضي بالحال، وأغناه عن
طول الترحال، وحقر عنده ما كان من سواه يستعظمه، وحقق لديه ما كان من فضله
يتوهمه، فنسي ما كان ألفه من جولان البلاد، وظفر بالمرعى الخصب بعد طول
الإرتياد، ونفذت الإشارة الكريمة بأن يملي ما شاهده في رحلته من الأمصار، وما
علق بحفظه من نوادر الأخبار، ويذكر من لقيه من ملوك الأقطار، وعلمائها الأخيار،
وأوليائها الأبرار، فأملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر، وبهجة المسامع والنواظر،
من كل غريبة أفاد باجتلائها، وعجيبة أطرف بانتحائها. وصدر الأمر العالي لعبد
مقامهم الكريم، المنقطع إلى بابهم المتشرف بخدمة جنابهم. محمد ابن محمد بن جزي
الكلبي، أعانه الله على خدمتهم، وأوزعه شكر نعمتهم، أن يضم أطراف ما أملاه
الشيخ أبو عبد الله من ذلك مشتملا في تصنيف يكون على فوائده مشتملا، ولنيل
مقاصده مكملا، متوخيا تنقيح الكلام وتهذيبه، معتمدا إيضاحه وتقريبه، ليقع
الاستمتاع بتلك الطرف، ويعظم الانتفاع بدرها عند تجريده من الصدف. فامتثل ما
أمر به مبادرا، وشرع في منهله ليكون بمعونة الله عن توفية الغرض منه صادرا،
ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها، موضحة
للمناحي التي اعتمدها، وربما أوردت لفظه على وضعه، فلم أخل بأصله ولا فرعه،
وأوردت جميع ما أورده من الحكايات والأخبار، ولم أتعرض لبحث عن حقيقة ذلك ولا
اختبار، على أنه سلك في إسناد صحاحها أقوم المسالك، وخرج عن عهدة سائرها بما
يشعر من الألفاظ بذلك وقيدت المشكل من أسماء المواضع والرجال بالشكل والنقط،
ليكون أنفع في التصحيح والضبط، وشرحت ما أمكنني شرحه من الأسماء العجمية، لأنها
تلتبس بعجمتها على الناس، ويخطئ في فك معماها معهود القياس، وإنا فنرجو أن يقع
ما قصدته من المقام العلي، أيده الله بمحل القبول، وأبلغ من الإغضاء عن تقصيره
المأمول، فعوائدهم في السماح جميلة، ومكارمهم بالصفح عن الهفوات كفيلة، والله
تعالى يديم لهم عادة النصر والتمكين ويعرفهم عوارف التأييد والفتح المبين.
بدء
الرحلة والخروج من طنجة
صفحة : 3
قال الشيخ أبو عبد
الله: كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد
عام خمسة وعشرين وسبعمائة، معتمدا حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه
أفضل الصلاة والسلام. منفردا عن رفيق آنس بصحبته، وراكب أكون في جملته، لباعث
على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم. فحزمت
أمرى على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور.
وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصبا، ولقيت كما لقيا من الفراق نصبا
وسني يومئذ اثنتان وعشرون سنة. قال ابن جزي: أخبرني أبو عبد الله بمدينة غرناطة
أن مولده بطنجة في يوم الاثنين السابع عشر من رجب الفرد سنة ثلاث وسبعمائة.
صفحة : 4
وكان ارتحالي في
أيام أمير المؤمنين وناصر الدين المجاهد في سبيل رب العالمين الذي رويت أخبار
جوده موصولة الإسناد بالإسناد، وشهرت آثار كرمه شهرة واضحة الإشهاد، وتحلت
الأيام بحلى فضله، ورتع الأنام في ظل رفقه وعدله، الإمام المقدس أبي سعيد ابن
مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين الذي فل حد الشرك صدق عزائمه، وأطفأت نار
الكفر جداول صارمه، وفتكت بعباد الصليب كتائبه، وكرمت في إخلاص الجهاد مذاهبه،
الإمام المقدس أبي يوسف ابن عبد الحق، جدد الله عليهم رضوانه، وسقى ضرائحهم
المقدسة من صوب الحيا طله وتهتانه، وجزاهم أفضل الجزاء عن الإسلام والمسلمين،
وأبقى الملك في عقبهم إلى يوم الدين. فوصلت مدينة تلمسان وسلطانها يومئذ أبو
تاشفين عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمر أسن بن زيان. ووافقت بها رسولي ملك
إفريقية السلطان أبي يحيى رحمه الله، وهما قاضي الأنكحة بمدينة تونس أبو عبد
الله محمد بن أبي بكر علي بن إبراهيم النفزاوي، والشيخ الصالح أبو عبد الله
محمد بن الحسين بن عبد الله القرشي الزبيدي - بضم الزاي نسبة إلى قرية بساحل
المهدية، وهو أحد الفضلاء وكانت وفاته عام أربعين. وفي يوم وصولي إلى تلمسان،
خرج عنها الرسولان المذكوران، فأشارعلي بعض الاخوان بمرافقتهما، فاستخرت الله
عز وجل في ذلك وأقمت بتلمسان ثلاثا في قضاء مآربي، وخرجت أجد السير في آثارهما،
فوصلت مدينة مليانة، وأدركتهما بها، وذلك في إبان القيظ. فلحق الفقيهين مرض
أقمنا بسببه عشرا، ثم ارتحلنا وقد اشتد المرض بالقاضي منهما، فأقمنا ببعض
المياه على مسافة أميال من مليانة ثلاثا وقضى القاضي نحبه ضحى اليوم الرابع،
فعاد ابنه أبو الطيب ورفيقه أبو عبد الله الزبيدي إلى مليانة فقبروه بها.
وتركتهم هنالك، وارتحلت مع رفقة من تجار تونس منهم الحاج مسعود بن المنتصر،
والحاج العدولي، ومحمد بن الحجر، فوصلنا مدينة الجزائر، وأقمنا بخارجها أياما،
إلى أن قدم الشيخ أبو عبد الله وابن القاضي. فتوجهنا جميعا على منبجة جبل
الزان، ثم وصلنا إلى مدينة بجاية فنزل الشيخ أبو عبد الله بدار قاضيها أبي عبد
الله الزواوي، ونزل أبو الطيب ابن القاضي بدار الفقيه أبي عبد الله المفسر،
وكان أمير بجاية إذ ذاك أبا عبد الله محمد بن سيد الناس الحاجب، وكان قد توفي
من تجار تونس الذين صحبتهم من مليانة محمد بن الحجر الذي تقدم ذكره. وترك ثلاثة
آلاف دينار من الذهب، وأوصى بها لرجل من أهل الجزائر يعرف بابن حديدة، ليوصلها
إلى ورثته بتونس فانتهى خبره لابن سيد الناس المذكور فانتزعها من يده، وهذا أول
ما شاهدته من ظلم عمال الموحدين وولاتهم، ولما وصلنا إلى بجاية كما ذكرته،
أصابتني الحمى، فأشار علي أبو عبد الله الزبيدي بالإقامة فيها حتى يتمكن البرء
مني، فأبيت وقلت إن قضى الله عز وجل بالموت فتكون وفاتي بالطريق وأنا قاصد أرض
الحجاز. فقال لي أما إن عزمت فبع دابتك وثقل المتاع، وأنا أعيرك دابة وخباء
وتصحبنا خفيفا، فإننا نجد السير خوف غارة العرب في الطريق، ففعلت هذا، وأعارني
ما وعد به، جزاه الله خيرا وكان ذلك أول ما ظهر لي من الألطاف الإلهية في تلك
الوجهة الحجازية. وسرنا إلى أن وصلنا مدينة قسنطينية ، فنزلنا خارجها وأصابنا
مطر جود فاضطررنا إلى الخروج عن الأخبية ليلا إلى دور هنالك. فلما كان من الغد
تلقانا حاكم المدينة وهو من الشرفاء الفضلاء يسمى بأبي الحسن، فنظر إلى ثيابي
وقد لوثها المطر، فأمر بغسلها في داره، وكان الإحرام منها خلقا، فبعث مكانه
إحراما بعلبكيا وصر في أحد طرفيه دينارين من الذهب. فكان ذلك أول ما فتح به على
وجهتي، ورحلنا إلى أن وصلنا مدينة بونة ونزلنا بداخلها. وأقمنا بها أياما، ثم
تركنا بها ما كان في صحبتنا من التجار لأجل الخوف في الطريق، وتجردنا للسير،
وواصلنا الجد، وأصابتني الحمى، فكنت أشد نفسي بعمامة فوق السرج خوف السقوط بسبب
الضعف، ولا يمكنني النزول من الخوف، إلى أن وصلنا إلى مدينة تونس فبرز أهلها
للقاء الشيخ أبي عبد الله الزبيدي ولقاء أبي الطيب ابن القاضي أبي عبد الله
النفزاوي، فأقبل بعضهم على بعض بالسلام والسؤال ولم يسلم علي أحد، لعدم معرفتي
بهم، فوجدت من ذلك النفس ما لم أملك معه سوابق العبرة واشتد بكائي، فشعر بحالي
بعض الحجاج فأقبل علي بالسلام
صفحة : 5
والإيناس، وما زال
يؤنسني بحديثه حتى دخلت المدينة ونزلت منها بمدرسة الكتبيين. قال ابن جزي:
أخبرني شيخي قاضي الجماعة أخطب الخطباء أبو البركات محمد بن محمد ابراهيم
السلمي هو ابن الحاج البلفيقي أنه جرى له مثل هذه الحكاية. قال قصدت مدينة بلش
من بلاد الأندلس في ليلة عيد، برسم رواية الحديث المسلسل بالعيد عن أبي عبد
الله ابن الكماد، وحضرت المصلى مع الناس، فلما فرغت الصلاة والخطبة، أقبل الناس
بعضهم على بعض بالسلام، وأنا في ناحية لا يسلم والإيناس، وقال: نظرت إليك،
فرأيتك منتبذا عن الناس، لا يسلم عليك أحد فعرفت أنك غريب فأحببت إيناسك جزاه
الله خيرا.اس، وما زال يؤنسني بحديثه حتى دخلت المدينة ونزلت منها بمدرسة
الكتبيين. قال ابن جزي: أخبرني شيخي قاضي الجماعة أخطب الخطباء أبو البركات
محمد بن محمد ابراهيم السلمي هو ابن الحاج البلفيقي أنه جرى له مثل هذه
الحكاية. قال قصدت مدينة بلش من بلاد الأندلس في ليلة عيد، برسم رواية الحديث
المسلسل بالعيد عن أبي عبد الله ابن الكماد، وحضرت المصلى مع الناس، فلما فرغت
الصلاة والخطبة، أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام، وأنا في ناحية لا يسلم
والإيناس، وقال: نظرت إليك، فرأيتك منتبذا عن الناس، لا يسلم عليك أحد فعرفت
أنك غريب فأحببت إيناسك جزاه الله خيرا.
ذكر
سلطان تونس
وكان سلطان تونس عند دخولي
إليها السلطان أبا يحيى ابن السلطان أبي زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق
إبراهيم ابن السلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص رحمه الله. وكان
بتونس جماعة من أعلام العلماء، منهم قاضي الجماعة بها أبو عبد الله محمد ابن
قاضي الجماعة أبي العباس أحمد بن محمد بن حسن بن محمد الأنصاري الخزرجي البلنسي
الأصل، ثم التونسي هو ابن الغماز، ومنهم الخطيب أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن
علي بن عبد الرفيع، وولي أيضا قضاء الجماعة في خمس دول، ومنهم الفقيه أبو علي
عمر بن علي بن قداح الهواري، وولي أيضا قضاءها وكان من أعلام العلماء. ومن
عوائده أنه يستند كل يوم جمعة بعد صلاتها إلى بعض أساطين الجامع الأعظم المعروف
بجامع الزيتونة، ويستفتيه الناس في المسائل. فإذا أفتى في أربعين مسألة انصرف
عن مجلسه ذلك، وأظلني بتونس عيد الفطر، فحضرت المصلى، وقد احتفل الناس لشهود
عيدهم، وبرزوا في أجمل هيئة وأكمل شارة. ووافى المسجد السلطان أبو يحيى المذكور
راكبا وجميع أقاربه وخواصه، وخدم مملكته مشاة على أقدامهم في ترتيب عجيب، وصليت
الصلاة، وانقضت الخطبة، وانصرف الناس إلى منازلهم. وبعد مدة تعين لركب الحجاز
الشريف شيخه ويعرف بأبي يعقوب السوسي من أهل أقل من بلاد إفريقية، وأكثره
المصامدة. فقدموني قاضيا بينهم، وخرجنا من تونس في أواخر شهر ذي القعدة سالكين
طريق الساحل، فوصلنا إلى بلدة سوسة، وهي صغيرة حسنة مبنية على شاطىء البحر،
بينها وبين مدينة تونس أربعون ميلا، ثم وصلنا إلى مدينة صفاقس وبخارج هذه
البلدة قبر الإمام أبي الحسن اللخمي المالكي مؤلف كتاب التبصرة في الفقه. قال
ابن جزي في بلدة صفاقس: يقول علي بن حبيب التنوخي:
سقيا لأرض صفـاقـس
ذات المصانع والمصلى
محمى القصير إلى
الخليج
فقصرها السامي المعلى
بلـد يكـاد يقـول
حـين
تزوره أهـلا وسـهـلا
وكأنه والبـحـر يحـس
ر تارة عـنـه ويمـلا
صب يريد زيارة
فإذا رأى الرقباء ولـى وفي عكس ذلك يقول الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن
أبي تميم وكان من المجيدين المكثرين:
صفاقس لا صفا عيش
لساكـنـهـا
ولا سقى أرضها غيث إذا انسكـبـا
ناهيك من بلدة من حل
ساحـتـهـا
عانى بها العاديين الروم والعـربـا
كم ضل في البر
مسلوبا بضاعـتـه
وبات في البحر يشكو الأسر والعطبا
قد عاين البحر من
لؤم لقاطـنـهـا
فكلما هم أن يدنـو لـهـا هـربـا
ثم وصلنا إلى مدينة قابس
ونزلنا بداخلها، وأقمنا بها عشرا لتوالي نزول الأمطار، قال ابن جزي في ذكر قابس:
يقول بعضهم:
لهفي على طيب ليال
خلت
بجانب البطحاء من قابس
صفحة : 6
كأن قلبي عند تذكارها
جذوة نار بيد القابس
ثم خرجنا من مدينة قابس
قاصدين طرابلس، وصحبنا في بعض المراحل إليها نحو مائة فارس أو يزيد، وكان
بالركب قوم رماة فهابتهم العرب، وتحامت مكانهم، وعصمنا الله منهم، وأظلنا عيد
الأضحى في بعض تلك المراحل. وفي الرابع بعده وصلنا إلى مدينة طرابلس، فأقمنا
بها مدة وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس، فبنيت عليها بطرابلس ثم
خرجت من طرابلس في أواخر شهر المحرم من عام ستة وعشرين، ومعي أهلي، وفي صحبتي
جماعة من المصامدة، وقد رفعت العلم، وتقدمت عليهم، وأقام الركب في طرابلس خوفا
من البرد والمطر، وتجاوزنا مسلاتة ومسراتة وقصور سرت. وهنالك أرادت طوائف العرب
الإيقاع بنا ثم صرفتهم القدرة، وحالت دون ما راموه من أذيتنا، ثم توسطنا
الغابة، وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابد، إلى قبة سلام، وأدركنا هنالك الركب
الذين تخلفوا بطرابلس، ووقع بيني وبين صهري مشاجرة أوجبت فراق بنته وتزوجت بنتا
لبعض طلبة فاس وبنيت بها بقصر الزعافية، وأولمت وليمة حبست لها الركب يوما
وأطعمتهم، ثم وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الإسكندرية حرسها الله، وهي
الثغر المحروس، والقطر المأنوس العجيبة الشأن الأصيلة البنيان، بها ما شئت من
تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودين، كرمت مغانيها، ولطفت معانيها، وجمعت بين
الضخامة والإحكام مبانيها، فهي الفريدة في تجلي سناها، والخريدة تجلى في حلاها،
الزاهية بجمالها المغرب، والجامعة لمفترق المحاسن، لتوسطها بين المشرق والمغرب،
فكل بديعة بها اختلاؤها، وكل طرفة فإليها انتهاؤها. وقد وصفها الناس فأطنبوا،
وصنفوا في عجائبها فأغربوا وحسب المشرف إلى ذلك ما سطره أبو عبيد في كتاب
المسالك.
ذكر
أبوابها ومرساها
ولمدينة الاسكندرية أربعة
أبواب: باب السدرة وإليه يشرع طريق المغرب، وباب رشيد، وباب البحر، والباب
الأخضر، وليس يفتح إلا يوم الجمعة، فيخرج الناس منه إلى زيارة القبور. ولها
المرسى العظيم الشأن ولم أر في مراسي الدنيا مثله إلا ما كان من مرسى كولم
وقاليقوط ببلاد الهند، ومرسى الكفار بسرادق ببلاد الأتراك ومرسى الزيتون ببلاد
الصين، وسيقع ذكرها.
ذكر
المنار
قصدت المنار في هذه الوجهة
فرأيت أحد جوانبه متهدما. وصفته أنه بناء مربع، ذاهب في الهواء، وبابه مرتفع
على الأرض وإزاء بابه بناء بقدر ارتفاعه، وضعت بينهما ألواح خشب يعبر عليها إلى
بابه، فاذا أزيلت لم يكن له سبيل. وداخل الباب موضع لجلوس حارس المنار. وداخل
المنار بيوت كثيرة. وعرض الممر بداخله تسعة أشبار، وعرض الحائط عشرة أشبار،
وعرض المنار من كل جهة من جهاته الأربع مائة وأربعون شبرا وهو على تل مرتفع.
ومسافة ما بينه وبين المدينة فرسخ واحد في بر مستطيل يحيط به البحر من ثلاث
جهات إلى أن يتصل البحر بسور البلد، فلا يمكن التوصل إلى المنار في البر إلا من
المدينة وفي هذا البر المتصل بالمنار مقبرة الإسكندرية. وقصدت المنار عند عودي
إلى بلاد المغرب عام خمسين وسبعمائة، فوجدته قد استولى عليه الخراب، بحيث لا
يمكن دخوله ولا الصعود إلى بابه. وكان الملك الناصر رحمه الله قد شرع في بناء
منار مثله بإزائه، فعاقه الموت من إتمامه.
ذكر
عمود السواري
صفحة : 7
ومن غرائب هذه
المدينة عمود الرخام الهائل الذي بخارجها، المسمى عندهم بعمود السواري وهو
متوسط في غابة نخل. وقد امتاز عن شجراتها سموا وارتفاعا. وهو قطعة واحدة محكمة
النحت قد أقيم على قواعد حجارة مربعة أمثال الدكاكين العظيمة ولا تعرف كيفية
وضعه هنالك ولا يتحقق من وضعه. قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخي الرحالين أن أحد
الرماة بالإسكندرية صعد إلى أعلى ذلك العمود ومعه قوسه وكنانته واستقر هنالك
وشاع خبره، فاجتمع الجمع الغفير لمشاهدته، وطال العجب منه، وخفي على الناس وجه
احتياله وأظنه كان خائفا، أو طالب حاجة، فأنتج له فعله الوصول إلى قصده لغرابة
ما أتى به. وكيفية احتياله في صعوده أنه رمى بنشابة قد عقد بفوقها خيطا طويلا،
وعقد بطرف الخيط حبلا وثيقا، فتجاوزت النشابة أعلى العمود معترضة عليه، ووقعت
من الجهة الموازية للرامي، فصار الخيط معترضا على أعلى العمود، فجذبه حتى توسط
الحبل أعلى العمود مكان الخيط، فأوثقه من إحدى الجهتين في الأرض، وتعلق به
صاعدا من الجهة الأخرى، واستقر بأعلاه وجذب الحبل، واستصحب من احتمله، فلم يهتد
الناس لحيلته، وعجبوا من شأنه. وكان أمير الإسكندرية في عهد وصولي إليها يسمى
بصلاح الدين وكان فيها أيضا في ذلك العهد سلطان أفريقية المخلوع، وهو زكرياء
أبو يحيى بن أحمد بن أبي حفص المعروف باللحياني. وأمر الملك الناصر بإنزاله
بدار السلطنة من إسكندرية، وأجرى له مائة درهم في كل يوم. وكان معه أولاده عبد
الواحد ومصري واسكندري وحاجبه أبو زكريا بن يعقوب ووزيره أبو عبد الله بن
ياسين. وبالإسكندرية توفي اللحياني المذكور، وولده الاسكندري وبقي المصري بها.
قال ابن جزي: من الغريب ما اتفق من صدق الزجر في اسمي ولدي اللحياني الاسكندري
والمصري فمات بها، وعاش المصري دهرا طويلا بها وهي من بلاد مصر. وتحول عبد
الواحد لبلاد الأندلس والمغرب وأفريقية، وتوفي هنالك بجزيرة جربة.
ذكر
بعض علماء الإسكندرية
فمنهم قاضيها عماد الدين
الكندي، إمام من أئمة علم اللسان. وكان يعتم بعمامة خرقت المعتاد للعمائم لم أر
في مشارق الأرض ومغاربها عمامة أعظم منها رأيته يوما قاعدا في صدر محراب، وقد
كادت عمامته أن تملأ المحراب ومنهم فخر الدين بن الريغي وهو أيضا من القضاة
بالإسكندرية فاضل من أهل العلم.
حكاية
يذكر أن جد القاضي فخر
الدين الريغي من أهل ريغة، واشتغل بطلب العلم، ثم رحل إلى الحجاز، فوصل
الإسكندرية بالعشي. وهو قليل ذات اليد، فأحب أن لا يدخلها حتى يسمع فالا حسنا
فقعد قريبا من بابها، إلى أن دخل جميع الناس. وجاء وقت سد الباب ولم يبق هنالك
سواه فاغتاظ الموكل بالباب من إبطائه، وقال متهكما أدخل يا قاضي فقال: قاض إن
شاء الله، ودخل إلى بعض المدارس، ولازم القراءة وسلك طريق الفضلاء، فعظم صيته،
وشهر اسمه، وعرف بالزهد والورع، واتصلت أخباره بملك مصر. واتفق أن توفي قاضي
الإسكندرية وبها إذ ذاك الجم الغفير من الفقهاء والعلماء، وكلهم متشوف للولاية،
وهو من بينهم، لا يتشوف لذلك فبعث إليه السلطان بالتقليد، وهو ظهير القضاء،
وأتاه البريد بذلك، فأمر خديمه أن ينادى في الناس من كانت له خصومة فليحضر لها
وقعد للفصل بين الناس. فاجتمع الفقهاء وسواهم إلى رجل منهم كانوا يظنون أن
القضاء لا يتعداه، وتفاوضوا في مراجعة السلطان في أمره، ومخاطبته بأن الناس لا
يرتضونه. وحضر لذلك أحد الحذاق من المنجمين فقال لهم: لا تفعلوا ذلك فإني عدلت
طالع ولايته، وحققته فظهر لي أنه يحكم أربعين سنة. فأضربوا عما هموا به من
المراجعة في شأنه. وكان أمره على ما ظهر للمنجم. وعرف في ولايته بالعدل
والنزاهة. ومنهم وجيه الدين الصنهاجي من قضاتها مشتهر بالعلم والفضل. ومنهم شمس
الدين ابن بنت التنيسي فاضل شهير الذكر. ومن الصالحين بها الشيخ أبو عبد الله
الفاسي من كبار أولياء الله تعالى، يذكر أنه كان يسمع رد السلام عليه إذا سلم
من صلاته. ومنهم الإمام العالم الزاهد الخاشع الورع خليفة صاحب المكاشفات.
صفحة : 8
كرامة له: أخبرني
بعض الثقات من أصحابه قال رأى الشيخ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
النوم. فقال يا خليفة: زرنا فرحل إلى المدينة الشريفة، وأتى المسجد الكريم،
فدخل من باب السلام، وحيا المسجد، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعد
مستندا إلى بعض سواري المسجد، ووضع رأسه على ركبتيه، وذلك يسمى عند المتصوفة
الترفيق. فلما رفع رأسه وجد أربعة أرغفة، وآنية فيها لبن، وطبقا فيه تمر، فأكل
هو وأصحابه وانصرف عائدا إلى الإسكندرية ولم يحج تلك السنة. ومنهم الإمام
العالم الزاهد الورع الخاشع برهان الدين الأعرج، من كبار الزهاد وأفراد العباد،
لقيته أيام مقامي بالإسكندرية وأقمت في ضيافته ثلاثا.
ذكر كرامة له: دخلت عليه
يوما فقال لي: أراك تحب السياحة والجولان في البلاد فقلت له: نعم إني أحب ذلك.
ولم يكن حينئذ بخاطري التوغل في البلاد القاصية من الهند والصين. فقال لا بد لك
إن شاء الله من زيارة أخي فريد الدين بالهند، وأخي ركن الدين زكرياء بالسند،
وأخي برهان الدين بالصين. فإذا بلغتهم فأبلغهم مني السلام فعجبت من قوله وألقى
في روعي التوجه إلى تلك البلاد ولم أزل أجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذكرهم،
وأبلغتهم سلامه. ولما ودعته زودني دراهم لم تزل عندي محوطة. ولم أحتج بعد إلى
إنفاقها، إلى أن سلبها مني كفار الهنود، فيما سلبوه لي في البحر. ومنهم الشيخ
ياقوت الحبشي، من أفراد الرجال. وهو تلميذ أبي العباس المرسي. وأبو العباس
المرسي تلميذ ولي الله تعالى أبي الحسن الشاذلي الشهير ذي الكرامات الجليلة
والمقامات العالية.
كرامة لأبي الحسن الشاذلي:
أخبرني الشيخ ياقوت عن شيخه أبي العباس المرسي أن أبا الحسن كان يحج في كل سنة،
ويجعل طريقه على صعيد مصر، ويجاور بمكة شهر رجب وما بعده إلى انقضاء الحج،
ويزور القبر الشريف، ويعود على الدرب الكبير إلى بلده. فلما كان في بعض السنين،
وهي آخر سنة خرج فيها، قال لخديمه: استصحب فأسا وقفة وحنوطا، وما يجهز به
الميت. فقال له الخديم: ولم ذا يا سيدي ? فقال له: في حميثرا سوف ترى. وحميثرا
في صعيد مصر في صحراء عيذاب، وبها عين ماء زعاق. وهي كثيرة الضباع. فلما بلغا
حميثرا اغتسل الشيخ أبو الحسن، وصلى ركعتين، وقبضه الله عز وجل في آخر سجدة من
صلاته، ودفن هناك. وقد زرت قبره وعليه تبرية مكتوب فيها اسمه ونسبه متصلا
بالحسن بن علي رضي الله عنه.
صفحة : 9
ذكر حزب البحر
المنسوب إليه: كان يسافر في كل عام كما ذكرناه على صعيد مصر وبحر جدة، فكان إذا
ركب السفينة يقرؤه في كل يوم، وتلامذته إلى الآن يقرؤنه في كل يوم، وهو هذا: يا
ألله يا علي يا عظيم ياحليم يا عليم، أنت ربي وعليك حسبي، فنعم الرب ربي، ونعم
الحسب حسبي، تنصر من تشاء، وأنت العزيز الرحيم. نسألك العصمة في الحركات
والسكنات والكلمات والإرادات والخطرات من الشكوك والظنون والأوهام الساترة
للقلوب عن مطالعة الغيوب فقد ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، ليقول
المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، فثبتنا
وانصرنا وسخر لنا هذا البحر، كما سخرت البحر لموسى عليه السلام، وسخرت النار
لإبراهيم عليه السلام، وسخرت الجبال والحديد لداوود عليه السلام، وسخرت الريح
والشياطين والجن لسليمان عليه السلام، وسخر لنا كل بحر هو لك في الأرض والسماء،
والملك والملكوت، وبحر الدنيا وبحر الآخرة، وسخر لنا شيئا يا من بيده ملكوت كل
شيء. كهيعص حم عسق، انصرنا فإنك خير الناصرين، وافتح لنا فإنك خير الفاتحين،
واغفر لنا فإنك خير الغفارين، وارحمنا فإنك خير الراحمين، وارزقني فإنك خير
الرازقين، واهدنا ونجنا من القوم الظالمين، وهب لنا ريحا طيبة كما هي في علمك،
انشرها علينا من خزائن رحمتك، واحملنا بها حمل الكرامة مع السلامة والعافية في
الدين والدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير. اللهم يسر لنا أمورنا مع الراحة
لقلوبنا وأبداننا، والسلامة والعافية في ديننا ودنيانا، وكن لنا صاحبا في
سفرنا، وخليفة في أهلنا، واطمس على وجوه أعدائنا، وامسخهم على مكانتهم، فلا
يستطيعون المضي ولا المجيء إلينا، ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط
فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون
يس إلى فهم لا يبصرون شاهت الوجوه وعنت الوجوه للحي
القيوم وقد خاب من حمل ظلما طس طسم حم عسق مرج البحرين يلتقيان
بينهما برزخ لا يبغيان حم حم حم حم حم حم حم حم الأمر، وجاء النصر فعلينا
لا ينصرون حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافرالذنب وقابل التوب
شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير باسم الله بابنا، تبارك
حيطاننا يس سقفنا. كهيعص كفايتنا. حم عسق حمايتنا: فسيكفيكهم الله وهو
السميع العليم ستر العرش مسبول علينا، وعين الله ناظرة إلينا، بحول الله
لايقدر علينا والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين إن وليي الله الذي نزل الكتاب
وهو يتولى الصالحين فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه
توكلت وهو رب العرش العظيم بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض
ولا في السماء وهوالسميع العليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى
الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حكاية
صفحة : 10
ومما جرى بمدينة
الإسكندرية سنة سبع وعشرين. وبلغنا خبر ذلك بمكة شرفها الله، أنه وقع بين
المسلمين وتجار النصارى مشاجرة. وكان والي الإسكندرية رجلا يعرف بالكركي. فذهب
إلى حماية الروم، وأمر المسلمين فحضروا بين فصيلي باب المدينة. وأغلق دونهم
الأبواب نكالا لهم. فأنكر الناس ذلك وأعظموه، وكسروا الباب، وثاروا إلى منزل
الوالي، فتحصن منهم، وقاتلهم من أعلاه، وطير الحمام بالخبر إلى الملك الناصر،
فبعث أميرا يعرف بالجمالي، ثم أتبعه أميرا يعرف بطوغان، جبارا قاسي القلب متهما
في دينه. يقال:إنه كان يعبد الشمس. فدخلا إسكندرية، وقبضا على كبار أهلها
وأعيان التجار بها، كأولاد الكوبك وسواهم. وأخذ منهم ألأموال الطائلة وجعلت في
عنق عماد الدين القاضي جامعة حديد. ثم أن الأميرين قتلا من أهل المدينة ستة
وثلاثين رجلا. وجعلوا كل رجل قطعتين، وصلبوهم صفين وذلك في يوم جمعة وخرج الناس
على عادتهم من الصلاة لزيارة القبور وشاهدوا مصارع القوم. فعظمت حسرتهم وتضاعفت
أحزانهم. وكان في جملة أولئك المصلوبين تاجر كبير القدر يعرف بابن رواحة. وكان
له قاعة معدة للسلاح. فمتى كان خوف أو قتال جهز منها المائة والمائتين من
الرجال بما يكفيهم من الأسلحة. وبالمدينة قاعات على هذه الصورة لكثير من أهلها.
فزل لسانه وقال للاميرين أنا أضمن هذه المدينة وكل ما يحدث فيها أطالب به،
وأحوط على السلطان مرتبات العساكر والرجال. فأنكر الأميران قوله، وقالا: إنما
تريد الثورة على السلطان وقتلاه. وإنما كان قصده رحمه الله إظهار النصح والخدمة
للسلطان فكان فيه حتفه وكنت سمعت أيام إقامتي بالإسكندرية بالشيخ الصالح العابد
المنقطع المنفق من الكون أبي عبد الله المرشدي، وهو من كبار الأولياء المكاشفين
وأنه منقطع بمنية بني مرشد له هنالك زاوية، هو منفرد فيها، لا خديم له ولا
صاحب. ويقصده الأمراء والوزراء، وتأتيه الوفود من طوائف الناس في كل يوم،
فيطعمهم الطعام. وكل واحد منهم ينوي أن يأكل عنده طعاما أو فاكهة أو حلوى فيأتي
لكل واحد بما نواه، وربما كان ذلك في غير إبانه. ويأتيه الفقهاء لطلب الخطبة،
فيولي ويعزل، وذلك كله أمر مستفيض متواتر. وقد قصده الملك الناصر مرات بموضعه.
فخرجت من مدينة الإسكندرية قاصدا هذا الشيخ نفعنا الله به، ووصلت قرية تروجه
وضبطها بفتح التاء الفوقية وواو وجيم مفتوحة ، وهي على مسيرة نصف يوم من
مدينة الإسكندرية. وهي قرية كبيرة بها قاض ووال وناظر، ولأهلها مكارم أخلاق
ومروءة. صحبت قاضيها صفي الدين وخطيبها فخر الدين وفاضلا من أهلها يسمى بمبارك،
وينعت بزين الدين ونزلت بها على رجل من العباد الفضلاء كبير القدر يسمى عبد
الوهاب. وأضافني ناظرها زين الدين بن الواعظ وسألني عن بلدي وعن مجباه، فأخبرته
أن مجباه نحو اثني عشر ألفا من دينار الذهب. فعجب وقال لي: رأيت هذه القرية فإن
مجباها اثنان وسبعون ألف دينار ذهبا. وإنما عظمت مجابي ديار مصر لأن جميع
أملاكها لبيت المال. ثم خرجت من هذه القرية، فوصلت مدينة دمنهور، وهي مدينة
كبيرة، جبايتها كثيرة، ومحاسنها أثيرة، أم مدن البحيرة بأسرها، وقطبها الذي
عليه مدار أمرها، وضبطها بدال مهملة وميم مفتوحتين ونون ساكنة وهاء
مضمومة بواو وراء وكان قاضيها في ذلك العهد فخر الدين بن مسكين من فقهاء
الشافعية، وتولى قضاء الإسكندرية لما عزل عنها عماد الدين الكندي بسبب الواقعة
التي قصصناها . وأخبرني الثقة أن ابن مسكين أعطى خمسة وعشرين ألف درهم وصرفها
من دنانير الذهب ألف دينار على ولاية القضاء بالإسكندرية. ثم رحلنا إلى مدينة
فوا. وهذه المدينة عجيبة المنظر، حسنة المخبر، بها البساتين الكثيرة، والفوائد
الخطيرة الأثيرة، وضبطها بالفاء والواو المفتوحين مع تشديد الواو .
بها قبر الشيخ الولي أبي النجاة الشهير الاسم، خبير تلك البلاد، وزاوية الشيخ
أبي عبد الله المرشدي الذي قصدته بمقربة من المدينة. يفصل بينها خليج هنالك.
فلما وصلت، تعديتها، ووصلت إلى زاوية الشيخ المذكور قبل صلاة العصر، وسلمت
عليه، ووجدت عنده الأمير سلف الدين يلملك، وهو من الخاصكية. وأول اسمه ياء وآخر
الحروف كاف، ولامه الأولى مسكنة، والثانية مفتوحة، مثل الميم، والعامة تقول فيه
الملك فيخطئون. ونزل هذا ألأمير بعسكره خارج
صفحة : 11
الزاوية ولما دخلت
على الشيخ رحمه الله قام إلي وعانقني، وأحضر طعاما فواكلني. وكانت عليه جبة صوف
سوداء فلما حضرت صلاة العصر قدمني للصلاة إماما، وكذلك لكل ما حضرني عنده حين
إقامتي معه من الصلاة. ولما أردت النوم قال لي: إصعد إلى سطح الزاوية فنم هنالك
وذلك أوان القيظ فقلت للأمير: بسم الله. فقال لي: وما منا إلا له مقام معلوم.
فصعدت السطح، فوجدت به حصيرا ونطعا وآنية للوضوء، وجرة ماء وقدحا للشرب فنمت
هنالك.ية ولما دخلت على الشيخ رحمه الله قام إلي وعانقني، وأحضر طعاما فواكلني.
وكانت عليه جبة صوف سوداء فلما حضرت صلاة العصر قدمني للصلاة إماما، وكذلك لكل
ما حضرني عنده حين إقامتي معه من الصلاة. ولما أردت النوم قال لي: إصعد إلى سطح
الزاوية فنم هنالك وذلك أوان القيظ فقلت للأمير: بسم الله. فقال لي: وما منا
إلا له مقام معلوم. فصعدت السطح، فوجدت به حصيرا ونطعا وآنية للوضوء، وجرة ماء
وقدحا للشرب فنمت هنالك.
صفحة : 12
كرامة لهذا الشيخ:
رأيت ليلتي تلك، وأنا نائم بسطح الزاوية، كأني على جناح طائر عظيم يطير بي في
سمت القبلة. يتيامن ثم يشرق، ثم يذهب في ناحية الجنوب، ثم يبعد الطيران في
ناحية الشرق، وينزل في أرض مظلمة خضراء، ويتركني بها. فعجبت من هذه الرؤيا،
وقلت في نفسي: إن كاشفني الشيخ برؤياي فهو كما يحكى عنه. فلما غدوت لصلاة الصبح
قدمني إماما لها. ثم أتاه الأمير يلملك فوادعه وانصرف. ووادعه من كان هناك من
الزوار وانصرفوا أجمعين من بعد أن زودهم كعيكات صغارا. ثم سبحت سبحة الضحى.
ودعاني وكاشفني برؤياي، فقصصتها عليه فقال سوف تحج وتزور النبي صلى الله عليه
وسلم، وتجول في بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك، وتبقى بها مدة طويلة، وستلقى
به دلشاد الهندي، ويخلصك ممن شدة تقع فيها. ثم زودني كعيكات ودراهم ووادعته
وانصرفت. ومنذ فارقته لم ألق في أسفاري إلا خيرا، وظهرت علي بركاته. ثم لم ألق
فيمن لقيته مثله إلا الولي سيدي محمدا الموله بأرض الهند. ثم رحلنا إلى مدينة
النحرارية، وهي رحبة الفناء، حديثة البناء، أسواقها حسنة الرؤية، وضبطها
بفتح النون وحاء مهمل مسكن وراءين ، وأميرها كبير القدر يعرف بالسعدي،
وولده في خدمة ملك الهند، وسنذكره. وقاضيها صدر الدين سليمان المالكي من كبار
المالكية سفر عن الملك الناصر إلى العراق، وولي قضاء البلاد الغربية، وله هيئة
جميلة وصورة حسنة. وخطيبها شرف الدين السخاوي من الصالحين. ورحلت منها إلى
مدينة أبيار، وهي قديمة البناء، أرجة الأرجاء كثيرة المساجد، ذات حسن زائد
وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الباء الموحدة وياء آخر الحروف والف وراء
، وهي بمقربة من النحرارية. ويفصل بينها النيل وتصنع بأبيار ثياب حسان تعلو
قيمتها بالشام والعراق ومصر وغيرها. ومن الغريب قرب النحرارية منها. والثياب
التي تصنع بها غير معتبرة ولا مستحسنة عند أهلها. ولقيت بأبيار قاضيها عز الدين
المليجي الشافعي، وهو كريم الشمائل كبير القدر. حضرت عنده مرة يوم الركبة، وهم
يسمون ذلك يوم ارتقاب هلال رمضان. وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها
بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، ويقف على الباب نقيب
المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة. فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه، تلقاه ذلك
النقيب، ومشى بين يديه قائلا: بسم الله، سيدنا فلان الدين فيسمع القاضي ومن معه
فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به. فإذا تكاملوا هنالك، ركب القاضي
وركب من معه أجمعون، وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان
وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقب الهلال عندهم، وقد فرش ذلك
الموضع بالبسط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال، ثم يعودون
إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس. ويوقد أهل
الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره، ثم ينصرفون هكذا
فعلهم في كل سنة. ثم توجهت إلى مدينة المحلة الكبيرة وهي جليلة المقدار، حسنة
الآثار، كثير أهلها، جامع بالمحاسن شملها، واسمها بين. ولهذه المدينة قاضي
القضاة ووالي الولاة وكان قاضي قضاتها أيام وصولي اليها في فراش المرض ببستان
له على مسافة فرسخين من البلد، وهو عز الدين بن الأشمرين، فقصدت زيارته صحبة
نائبه الفقيه أبي القاسم ابن بنون المالكي التونسي، وشرف الدين الدميري قاضي
محلة منوف. وأقمنا عنده يوما، وسمعت منه، وقد جرى ذكر الصالحين أن على مسيرة
يوم من المحلة الكبيرة بلاد البرلس ونسترو، وهي بلاد الصالحين، وبها قبر الشيخ
مرزوق صاحب المكاشفات. فقصدت تلك البلاد، ونزلت بزاوية الشيخ المذكور وتلك
البلاد كثيرة النخل والثمار والطير البحري والحوت المعروف بالبوري ومدينتهم
تسمى ملطين ، وهي على ساحل البحيرة المجتمعة من ماء النيل وماء البحر المعروفة
ببحيرة تنيس . ونسترو بمقربة منها. نزلت هنالك بزاوية الشيخ شمس الدين القلوي
من الصالحين، وكانت تنيس بلدا عظيما شهيرا، وهي الآن خراب. قال ابن جزي
تنيس بكسر التاء المثناة والنون المشددة وياء وسين مهمل ، وإليه ينسب
الشاعر المجيد أبو الفتح ابن وكيع، وهو القائل في خليجها:
قم فاسقني والخليج
مضطرب
والريح تثني ذوائب القصب
صفحة : 13
كأنها والرياح
تعطـفـهـا
صب قنا سندسية العـذب
والجو في حلة
ممـسـكة
قد طرزتها البروق بالذهب
ونسترو بفتح النون واسكان
السين وراء مفتوحة وواو مسكن ، والبرلس بباء موحدة وراء وآخره سين مهملة،
وقيده بعضهم بضم حروفه الأول الثلاث وتشديد اللام . وقيده أبو بكر بن نقطة بفتح
الأولين - وهو على البحر ومن غريب ما اتفق به ما حكاه أبو عبد الله الرازي عن
أبيه أن قاضي البرلس، وكان رجلا صالحا، خرج ليلة إلى النيل. فبينما اسبغ
الوضوء، وصلى ما شاء الله أن يصلي، إذ سمع قائلا يقول:
لولا رجال لهم سرد
يصومونـا
وآخرون لهم ورد يقـومـونـا
لزلزلت أرضكم من
تحتكم سحرا
لأنكم قوم سوء لا تـبـالـونـا قال: فتجوزت في صلاتي، وأدرت طرفي، فما رأيت
أحدا، ولا سمعت حسا، فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى. ثم سافرت في أرض رملة
إلى مدينة دمياط. وهي مدينة فسيحة الأقطار، متنوعة الثمار، عجيبة الترتيب، آخذة
من كل حسن بنصيب والناس يضبطون اسمها بإعجام الذال. وكذلك ضبطه الإمام أبو محمد
عبد الله بن علي الرشاطي. وكان شرف الدين الإمام العلامة أبو محمد عبد المؤمن
بن خلف الدمياطي إمام المحدثين يضبطها بإهمال الدال، ويتبع ذلك بأن يقول خلاف
الرشاطي وغيره. وهو أعرف بضبط اسم بلده. ومدينة دمياط على شاطىء النيل، وأهل
الدور الموالية يستقون منه الماء بالدلاء وكثير من دورها بها دركات ينزل فيها
إلى النيل. وشجر الموز بها كثير، يحمل ثمره إلى مصر في المراكب. وغنمها سائمة
هملا بالليل والنهار. ولهذا يقال في دمياط: سورها حلوى، وكلابها غنم. وإذا
دخلها أحد، لم يكن له سبيل إلى الخروج عنها إلا بطابع الوالي فمن كان من الناس
معتبرا، طبع له في قطعة كاغد، يستظهر به لحراس بابها. وغيرهم يطبع على ذراعه،
فيستظهر به. والطير البحري بهذه المدينة كثير، متناهي السمن. وبها الألبان
الجاموسية التي لا مثل لها في عذوبة الطعم وطيب المذاق. وبها الحوت البوري يحمل
منها إلى الشام وبلاد الروم ومصر. وبخارجها جزيرة بين البحرين والنيل تسمى
البرزخ. بها مسجد وزاوية، لقيت بها شيخها المعروف بابن قفل، وحضرت عنده ليلة
جمعة ومعه جماعة من الفقراء الفضلاء المتعبدين الأخيار. قطعوا ليلتهم صلاة
وقراءة وذكرا. ودمياط هذه حديثة البناء والمدينة القديمة هي التي خربها الإفرنج
على عهد الملك الصالح. وبها زاوية الشيخ جمال الدين الساوي، قدوة الطائفة
المعروفة بالقلندرية ، وهم الذين يحلقون لحاهم وحواجبهم. ويسكن الزاوية في هذا
العهد الشيخ فتح التكروري.
حكاية
يذكر أن السبب الداعي
للشيخ جمال الدين الساوي إلى حلق لحيته وحاجبيه أنه كان جميل الصورة حسن الوجه
فعلقت به امرأة من أهل ساوة، وكانت تراسله وتعارضه في الطرق وتدعوه لنفسها، وهو
يمتنع ويتهاون، فلما أعياها أمره دست له عجوزا تصدت له إزاء دار على طريقه إلى
المسجد، وبيدها كتاب مختوم. فلما مر بها قالت له: يا سيدي أتحسن القراءة ? قال:
نعم. قالت له: الكتاب وجهه إلي ولدي، وأحب أن تقرأه علي. فقال لها، نعم. فلما
فتح الكتاب، قالت له: يا سيدي إن لولدي زوجة، وهي بأسطوان الدار، فلو تفضلت
بقراءته بين بابي الدار بحيث تسمعها. فأجابها لذلك. فلما توسط بين البابين غلقت
العجوز الباب، وأخرجت المرأة حواريها فتعلقن به. وأدخلنه إلى داخل الدار.
وراودته المرأة عن نفسه، فلما رأى أن لا خلاص له، قال لها: إني حيث تريدين.
فأريني بيت الخلاء. فأرته إياه. فأدخل معه الماء. وكانت عنده موسى جديدة، فحلق
لحيته وحاجيبه، وخرج عليها، فاستقبحت هيئته، واستنكرت فعله، وأمرت بإخراجه
وعصمه الله بذلك، فبقى على هيئته فيما بعد، وصار كل من يسلك طريقته أن يحلق
رأسه ولحيته و حاجبيه.
صفحة : 14
كرامة لهذا الشيخ:
يذكر أنه لما قصد مدينة دمياط لزم مقبرتها. وكان بها قاض يعرف بابن العميد.
فخرج يوما إلى جنازة بعض الأعيان، فرأى الشيخ جمال الدين بالمقبرة فقال له: أنت
الشيخ المبتدع. فقال له: وأنت القاضي الجاهل، تمر بدابتك بين القبور، وتعلم أن
حرمة الإنسان ميتا كحرمته حيا. فقال له القاضي: وأعظم من ذلك حلقك للحيتك. فقال
له: إياي تعني. وزعق الشيخ، ثم رفع رأسه، فإذا هو ذو لحية سوداء، عظيمة. فعجب
القاضي ومن معه، ونزل إليه عن بغلته. ثم زعق ثانيا فإذا هو ذو لحية بيضاء حسنة،
ثم زعق ثالثا ورفع رأسه. فإذا هو بلا لحية كهيئته الأولى فقبل القاضي يده،
وتتلمذ له، وبني له الزاوية الحسنة ، وصحبه أيام حياته حتى مات الشيخ. فدفن
بزاويته. ولما حضرت القاضي وفاته أوصى أن يدفن بباب الزاوية، حتى يكون كل داخل
إلى زيارة الشيخ يطأ قبره. وبخارج دمياط المزار المعروف بشطا، بفتح الشين
المعجمة والطاء المهملة ، وهو ظاهر البركة، يقصده أهل الديار المصرية.
وله أيام في السنة معلومة لذلك. وبخارجها أيضا بين بساتينها موضع يعرف بالمنية،
فيه شيخ من الفضلاء يعرف بابن النعمان. قصدت زاويته وبت عنده. وكان بدمياط أيام
إقامتي بها وال يعرف بالمحسني من ذوي الإحسان والفضل. بنى مدرسة على شاطىء
النيل بها. كان نزولي في تلك الأيام. وتأكدت بيني وبينه مودة. ثم سافرت إلى
مدينة فارسكور، وهي مدينة على ساحل النيل والكاف الذي في اسمها مضموم
. ونزلت بخارجها. ولحقني هنالك فارس وجهه إلي الأمير المحسني، فقال لي: إن
الأمير سأل عنك، وعرف بسيرتك، فبعث إليك بهذه النفقة. ودفع إلي جملة دراهم،
جزاه الله خيرا. ثم سافرت إلى مدينة أشمون الرمان، وضبط اسمها بفتح
الهمزة وإسكان الشين المعجم . ونسبت إلى الرمان لكثرته بها. ومنها يحمل
إلى مصر. وهي مدينة عتيقة كبيرة على خليج من خلج النيل ولها قنطرة خشب ترسو
المراكب عندها فإذا كان العصر رفعت تلك الخشب، وجازت المراكب صاعدة ومنحدرة.
وبهذا البلد قاضي القضاة ووالي الولاة. ثم سافرت عنها إلى مدينة سمنود، وهي على
شاطئ النيل، كثيرة المراكب حسنة الأسواق وبينها وبين المحلة الكبيرة ثلاثة
فراسخ وضبط اسمها بفتح السين المهملة والميم وتشديد النون وضمها وواو
ودال مهمل. ومن هذه المدينة ركبت النيل مصعدا إلى مصر، ما بين مدائن وقرى
منتظمة، المتصل بعضها ببعض. ولا يفتقر راكب النيل إلى استصحاب الزاد. لأنه مهما
أراد النزول بالشاطئ، نزل الوضوء والصلاة وشراء الزاد وغير ذلك. والأسواق متصلة
من مدينة الإسكندرية إلى مصر، ومن مصر إلى مدينة أسوان من الصعيد. ثم وصلت إلى
مدينة مصر هي أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة
والبلاد الأريضة، المتناهية في كثرة العمارة المتناهية بالحسن والنضارة، ومجمع
الوارد والصادر، ومحل رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئت من عالم وجاهل، وجاد
وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف، تموج موج البحر
بسكانها، وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها. شبابها يجد على طول العهد،
وكوكب تعديلها لا يبرح عن منزل السعد. قهرت قاهرتها الأمم، وتمكنت ملوكها من
نواصي العرب والعجم. ولها خصوصية النيل الذي أجل خطرها، وأغناها عن أن يستمد
القطر قطرها، وأرضها مسيرة شهر لمجد السير. كريمة التربة، مؤنسة لذوي الغربة.
قال ابن جزي: وفيها يقول الشاعر:
لعمرك ما مصر بمصر
وإنمـا
هي الجنة الدنيا لمن يتبـصـر
فأولادها الولدان
والحور عينهـا
وروضتها الفردوس والنيل كوثر وفيها يقول ناصر الدين بن ناهض:
شاطئ مصر جـنة
ما مثلها من بلـد
لا سيما مذ زخرفت
بنيلها المـطـرد
وللـرياح فـوقـه
سوابغ مـن زرد
مسرودة ما مسهـا
داودها بـمـبـرد
سائلة هـواؤهــا
يرعد عاري الجسد
والفلك كالأفلاك بي
ن حادر ومصعـد
صفحة : 15
ويقال: إن بمصر من
السقائين على الجمال اثني عشر ألف سقاء، وأن بها ثلاثين ألف مكار، وأن بنيلها
من المراكب ستة وثلاثين ألفا للسلطان والرعية، تمر صاعدة إلى الصعيد، ومنحدرة
إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخيرات والمرافق. وعلى ضفة النيل مما يواجه مصر
الموضع المعروف بالروضة، وهو مكان النزهة والتفرج، وبه البساتين الكثيرة
الحسنة. وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو. شاهدت بها مرة فرجة بسبب برء الملك
الناصر من كسر أصاب يده. فزين كل أهل سوق سوقهم، وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي
وثياب الحرير وبقوا على ذلك أياما.
ذكر
مسجد عمرو بن العاص
والمدارس
والمارستانات والزوايا
ومسجد عمرو بن العاص مسجد
شريف كبير القدر شهير الذكر، تقام فيه الجمعة. والطريق يعترضه من شرق إلى غرب
وبشرقه الزاوية حيث كان يدرس الإمام أبو عبد الله الشافعي. وأما المدارس بمصر
فلا يحيط أحد بحصرها لكثرتها: وأما المارستان الذي بين القصرين عند تربة الملك
المنصور قلاوون، فيعجز الواصف عن محاسنه. وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما
لا يحصر. يذكر أن مجباه ألف دينار كل يوم: وأما الزوايا فكثيرة. وهم يسمونها
الخوانق. واحدتها خانقة . والأمراء بمصر يتنافسون في بناء الزوايا وكل زاوية
بمصر معينة لطائفة من الفقاء، وأكثرهم الأعاجم. وهم أهل أدب ومعرفة بطريقة
التصوف. ولكل زاوية شيخ وحارس. وترتيب أمورهم عجيب. ومن عوائدهم في الطعام أنه
يأتي خديم الزاوية إلى الفقراء صباحا، فيعين له كل واحد ما يشتهيه من الطعام.
فإذا اجتمعوا للأكل جعلوا لكل إنسان خبزه ومرقه في إناء على حدة لا يشاركه فيه
أحد. وطعامهم مرتان في اليوم. ولهم كسوة الشتاء وكسوة الصيف ومرتب شهري من
ثلاثين درهما للواحد في الشهر إلى عشرين. ولهم الحلاوة من السكر في كل ليلة
جمعة، والصابون لغسل أثوابهم، والأجرة لدخول الحمام، والزيت للاستصباح. وهم
أعزاب. وللمتزوجين زوايا على حدة. ومن المشترط عليهم حضور الصلوات الخمس،
والمبيت بالزاوية، واجتماعهم بقبة داخل الزاوية. ومن عوائدهم أن يجلس كل واحد
منهم على سجادة مختصة به. وإذا صلوا صلاة الصبح قرأوا سورة الفتح، وسورة الملك،
وسورة عم، ثم يؤتى بنسخ من القرآن العظيم مجزأة، فيأخذ كل فقير جزءا، ويختمون
القرآن، ويذكرون، ثم يقرأ القراء على عادة أهل المشرق. ومثل ذلك يفعلون بعد
صلاة العصر. ومن عوائدهم مع القادم أنه يأتي باب الزاوية فيقف به مشدود الوسط،
وعلى كاهله سجادة، وبيمناه العكاز، وبيسراه الإبريق. فيعلم البواب خديم الزاوية
بمكانه فيخرج إليه، ويسأله من أي البلاد أتى، وبأي الزوايا نزل في طريقه ومن
شيخه، فإذا عرف صحة قوله أدخله الزاوية، وفرش له سجادته في موضع يليق به، وأراه
موضع الطهارة، فيجدد الوضوء، ويأتي إلى سجادته، فيحل وسطه، ويصلي ركعتين،
ويصافح الشيخ ومن حضر ويقعد معهم. ومن عوائدهم أنهم إذا كان يوم الجمعة أخذ
الخادم جميع سجاجيدهم فيذهب بها إلى المسجد ويفرشها لهم هنالك. ويخرجون
مجتمعين، ومعهم شيخهم فيأتون المسجد، ويصلي كل واحد على سجادته. فإذا فرغوا من
الصلاة قرأوا القرآن على عادتهم. ثم ينصرفون مجتمعين إلى الزاوية ومعهم شيخهم.
ذكر
قرافة مصر ومزاراتها
صفحة : 16
ولمصرالقرافة
العظيمة الشأن في التبرك بها. وقد جاء في فضلها أثر أخرجه القرطبي وغيره، لأنها
من جملة الجبل المقطم الذي وعد الله أن يكون روضة من رياض الجنة. وهم يبنون
بالقرافة القباب الحسنة، ويجعلون عليها الحيطان فتكون كالدور، ويبنون بها
البيوت، ويرتبون القراء يقرأون ليلا ونهارا بالأصوات الحسان. ومنهم من يبني
الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة، ويخرجون كل ليلة جمعة إلى المبيت بأولادهم
ونسائهم، ويطوفون على الأسواق بصنوف المآكل. ومن المزارات الشريفة المشهد
المقدس العظيم الشأن حيث رأس الحسين بن علي عليهما السلام، وعليه رباط ضخم عجيب
البناء، على أبوابه حلق الفضة وصفائحها أيضا. كذلك، وهو موفى الحق من الإجلال
والتعظيم. ومنها تربة السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور بن علي بن الحسين بن علي
عليهم السلام. وكانت مجابة الدعوة مجتهدة في العبادة. وهذه التربة أنيقة
البناء، مشرقة الضياء، عليها رباط مقصود. ومنها تربة الإمام أبي عبد الله محمد
بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وعليها رباط كبير. ولها جراية ضخمة. وبها القبة
الشهيرة البديعة الإتقان، العجيبة البنيان، المتناهية الإحكام، المفرطة السمو،
وسعتها أزيد من ثلاثين ذراعا. وبقرافة مصر من قبور العلماء والصالحين ما لا
يضبطه الحصر. وبها عدد جم من الصحابة، وصدور السلف والخلف رضي الله تعالى عنهم،
مثل عبد الرحمن بن القاسم، وأشهب بن عبد العزيز، وأصبغ بن الفرج، وابني عبد
الحكم، وأبي القاسم بن شعبان، وأبي محمد عبد الوهاب. لكن ليس لهم بها اشتهار،
ولا يعرفهم إلا من بهم عناية. والشافعي رضي الله عنه ساعده الجد في نفسه
وأتباعه وأصحابه في حياته ومماته، فظهر من أمره مصداق قوله:
الجد يدفي كل أمر
شـائع
والجد يفتح كل باب مغلق
ذكر
نيل مصر
ونيل مصر يفضل أنهار الأرض
عذوبة مذاق واتساع قطر وعظم منفعة. والمدن والقرى بضفتيه منتظمة، ليس في
المعمور مثلها. ولا يعلم نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل. وليس في الأرض نهر
يسمى بحرا غيره. قال الله تعالى: فإذا خفت عليه فألقيه في اليم فسماه
يما وهو البحر. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل ليلة
الإسراء إلى سدرة المنتهى، فإذا في أصلها أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران
باطنان. فسأل عنها جبريل عليه السلام فقال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما
الظاهران فالنيل والفرات. وفي الحديث أيضا النيل والفرات وسيحون وجيحون كل من
أنهار الجنة. ومجرى النيل من الجنوب إلى الشمال خلافا لجميع الأنهار. ومن
عجائبه أن ابتداء زيادته في شدة الحر عند نقص الأنهار وجفوفها، وابتداء نقصه
حين زيادة الأنهار وفيضها. ونهر السند مثله في ذلك، وسيأتي ذكره. وأول ابتداء
زيادته في حزيران وهو يونيه، فإذا بلغت زيادته ستة عشر ذراعا تم خراج السلطان.
فإن زاد ذراعا كان الخصب في العام والصلاح التام، فإن بلغ ثمانية عشر ذراعا أضر
بالضياع، وأعقب الوباء. وإن نقص ذراعا عن ستة عشر نقص خراج السلطان، وإن نقص
ذراعين استسقى الناس، وكان الضرر الشديد. والنيل أحد أنهار الدنيا الخمسة
الكبار، وهي النيل والفرات والدجلة وسيحون وجيحون. وتماثلها أنهار خمسة أيضا:
نهر السند ويسمى ينج اب ونهر الهند ويسمى الكنك، وإليه تحج الهنود. وإذا حرقوا
أمواتهم رموا برمادهم فيه. ويقولون هو من الجنة. ونهر الجون بالهند أيضا، ونهر
اتل بصحراء قفجق، وعلى ساحله مدينة السرا، ونهر السرو بأرض الخطا، وعلى ضفته
مدينة خان بالق، ومنها ينحدر إلى مدينة الخنسا ثم إلى مدينة الزيتون بأرض
الصين، وسيذكر ذلك كله في مواضعه ان شاء الله. والنيل يفترق بعد مسافة من مصر
على ثلاثة أقسام ولا يعبر نهر منها إلا في السفن شتاء وصيفا. وأهل كل بلد لهم
خلجان تخرج من النيل فإذا مد أترعها ففاضت على المزارع.
ذكر
الأهرام والبرابي
صفحة : 17
وهي من العجائب
المذكورة على مر الدهور. وللناس فيها كلام كثير، وخوض في شأنها، وأولية بنائها.
ويزعمون أن العلوم التي ظهرت قبل الطوفان أخذت من هرمس الأول الساكن بصعيد مصر
الأعلى ويسمون اخنوخ وهو ادريس عليه السلام. وأنه أول من تكلم في الحركات
الفلكية، والجواهر العلوية، وأول من بنى الهياكل، ومجد الله تعالى فيها، وأنه
أنذر الناس بالطوفان، وخاف ذهاب العلم ودروس الصنائع فبنى الأهرام والبرابي
وصور فيها جميع الصنائع والآلات، ورسم العلوم فيها لتبقى مخلدة. ويقال: إن دار
العلم والملك بمصر مدينة منف ، وهي على بريد من الفسطاط. فلما بنيت الإسكندرية
انتقل الناس إليها، وصارت دار العلم والملك. إلى أن أتى الإسلام فاختط عمرو بن
العاص رضي الله عنه مدينة الفسطاط، فهي قاعدة مصر إلى هذا العهد. والأهرام بناء
بالحجر الصلد المنحوت، متناهي السمو مستدير متسع الأسفل، ضيق الأعلى كالشكل
المخروط ولا أبواب لها، ولا تعلم كيفية بنائها. ومما يذكر في شأنها أن ملكا من
ملوك مصر قبل الطوفان رأى رؤيا هالته، وأوجبت عنده أنه بنى تلك الأهرام بالجانب
الغربي من النيل، لتكون مستودعا للعلوم، ولجثث العلوم، ولجثث الملوك، وأنه سأل
المنجمين هل يفتح منها موضع، فأخبروه أنها تفتح من الجانب الشمالي، وعينوا له
الموضع الذي تفتح منه، ومبلغ الإنفاق في فتحه. فأمر أن يجعل بذلك الموضع من
المال قدر ما أخبروه أنه ينفق في فتحه، واشتد في البناء، فأتمه في ستين سنة.
كتب عليها بنينا هذه الأهرام في ستين سنة فليهدمها من يريد ذلك في ستمائة سنة،
فإن الهدم أيسر من البناء. فلما أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين المأمون أراد
هدمها، فأشار عليه بعض مشايخ مصر أن لا يفعل فلج في ذلك، وأمر أن تفتح من
الجانب الشمالي فكانوا يوقدون عليها النار، ثم يرشونها بالخل، ويرمونها
بالمنجنيق، حتى فتحت الثلمة التي بها إلى اليوم، ووجدوا بإزاء النقب مالا أمر
أمير المؤمنين بوزنه فحصر ما أنفق في النقب، فوجدهما سواء. فطال عجبه من ذلك
ووجدوا عرض الحائط عشرين ذراعا.
ذكر
سلطان مصر
وكان سلطان مصر على عهد
دخولي إليها الملك الناصر أبا الفتح محمد بن المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي.
وكان قلاوون يعرف بالألفي لأن الملك الصالح اشتراه بألف دينار ذهبا وأصله من
قفجق. وللملك الناصر رحمه الله السيرة الكريمة والفضائل العظيمة. وكفاه شرفا
انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين، وما يفعله في كل سنة من أفعال البر التي تعين
الحجاج من الجمال التي تحمل الزاد والماء للمنقطعين والضعفاء، وتحمل من تأخر أو
ضعف عن المشي في الدربين المصري والشامي. وبنى زاوية عظيمة بسرياقص خارج
القاهرة. لكن الزاوية التي بناها مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين وكهف
الفقراء والمساكين، خليفة الله في أرضه القائم من الجهاد بنفله وفرضه أبو عنان
أيد الله أمره، وأظهره، وسنى له الفتح المبين ويسره، بخارج حضرته العلية
المدينة البيضاء حرسها الله لا نظير لها في المعمور، في إتقان الوضع وحسن
البناء والنقش في الجص، بحيث لا يقدر أهل المشرق على مثله. وسيأتي ذكر ما عمره
أيده الله من المدارس والمرستان والزوايا ببلاده حرسها الله وحفظها بدوام ملكه.
ذكر
بعض أمراء مصر
صفحة : 18
منهم ساقي الملك
الناصر، وهو الأمير بكتمور وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وكاف مسكن وتاء معلوة
مضمومة وآخره راء ، وهو الذي قتله الملك الناصر بالسم، وسيذكر ذلك، ومنهم
نائب الملك الناصر أرغون الدودار، وهو الذي يلي بكتمور في المنزلة، وضبط
اسمه بفتح الهمزة وإسكان الراء وضم الغين المعجمة ، ومنهم طشط المعروف
بحمص أخضر، واسمه بطاءين مهملين مضمومين وبينهما شين معجم . وكان
من خيار الأمراء. وله الصدقات الكثيرة على الأيتام من كسوة ونفقة وأجرة لمن
يعلمهم القرآن. وله الإحسان العظيم للحرافيش، وهم طائفة كبيرة أهل صلابة وجاه
ودعارة . وسجنه الملك الناصر مرة، فاجتمع من الحرافيش آلاف، ووقفوا بأسفل
القلعة، ونادوا بلسان واحد يا أعرج النحس، يعنون الملك الناصر، أخرجه فأخرجه من
محبسه، وسجنه مرة أخرى. ففعل الأيتام مثل ذلك فأطلقه. ومنهم وزير الملك الناصر
يعرف بالجمالي بفتح الجيم. ومنهم بدر الدين بن البابه. ومنهم جمال الدين نائب
الكرك. ومنهم تقزدمور واسمه بضم التاء المعلوة وضم القاف وزاء مسكن ثم
دال مضموم وميم مثله وآخره راء ، ودمور بالتركية الحديد. ومنهم بهادر
الحجازي واسمه بفتح والباء الموحدة وضم الدال المهملة وآخره راء .
ومنهم قوصون واسمه بفتح القاف وصاد مهمل مضموم ومنهم بشتك
واسمه بفتح الباء الموحدة واسكان الشين المعجم و وتاء معلوة مفتوحة . وكل
هؤلاء يتنافسون في أفعال الخيرات وبناء المساجد والزوايا. ومنهم ناظر جيش الملك
الناصر وكاتبه فخر الدين القبطي، وكان نصرانيا من القبط، فأسلم وحسن إسلامه،
وله المكارم العظيمة والفضائل التامة ودرجته من أعلى الدرجات عند الملك الناصر،
وله الصدقات الكثيرة والإحسان الجزيل. ومن عادته أن يجلس عشي النهار في مجلس له
بأسطوان داره على النيل ويليه المسجد، فإذا حضر المغرب صلى في المسجد وعاد إلى
مجلسه وأوتي بالطعام. ولا يمنع حينئذ أحد من الدخول كائنا من كان. فمن كان ذا
حاجة تكلم فيها فقضاها له ومن كان طالب صدقة أمر مملوكا له يدعى بدر الدين،
واسمه لؤلؤ، يصحبه إلى خارج الدار، وهنالك خازنه معه صرر الدراهم فيعطيه ما قدر
له. ويحضر عنده في ذلك الوقت الفقهاء ويقرأ بين يديه كتاب البخاري، فإذا صلى
العشاء الأخيرة انصرف الناس عنه.
ذكر
القضاة بمصر في عهد دخولي إليها
فمنهم قاضي القضاة
الشافعية، وهو أعلاهم منزلة وأكبرهم قدرا، وإليه ولاية القضاة بمصر وعزلهم، وهو
القاضي الإمام العالم بدر الدين بن جماعة. وابنه عز الدين هو الآن متولي ذلك.
ومنهم قاضي القضاة المالكية الإمام الصالح تقي الدين الإخنائي. ومنهم قاضي
القضاة الحنفية الإمام العالم شمس الدين الحريري، وكان شديد السطوة لا تأخذه في
الله لومة لائم. وكانت الأمراء تخافه. ولقد ذكر لي أن الملك الناصر قال يوما
لجلسائه. إني لا أخاف من أحد إلا من شمس الدين الحريري. ومنهم قاضي القضاة
الحنبلية. ولا أعرفه الآن إلا أنه كان يدعى بعز الدين.
حكاية
كان الملك الناصر رحمه
الله يقعد للنظر في المظالم ورفع قصص المتشكين كل يوم اثنين وخميس. ويقعد
القضاة الأربعة عن يساره وتقرأ القصص بين يديه، ويعين من يسأل صاحب القصة عنها
وقد سلك مولانا أمير المؤمنين ناصر الدين أيده الله في ذلك مسلكا لم يسبق إليه،
ولا مزيد في العدل والتواضع عليه، وهو سؤاله بذاته الكريمة لكل متظلم، وعرضه
بين يديه المستقيمة أبى الله أن يحضرها سواه، أدام الله أيامه. وكان رسم القضاة
المذكورين أن يكون أعلاهم منزلة في الجلوس: قاضي الشافعية ثم قاضي الحنفية ثم
قاضي المالكية ثم قاضي الحنبلية. فلما توفي شمس الدين الحريري، وولي مكانه
برهان الدين عبد الحق الحنفي أشار الأمراء على الملك الناصر بأن يكون مجلس
المالكي فوقه وذكروا أن العادة جرت بذلك قديما إذ كان قاضي المالكية زين الدين
بن مخلوف يلي قاضي الشافعية تقي الدين بن دقيق العيد، فأمر الناصر بذلك. فلما
علم به قاضي الحنفية غاب عن شهود المجلس أنفة من ذلك، فأنكر الملك الناصر
مغيبه، وعلم ما قصده، فأمر بإحضاره. فلما مثل بين يديه أخذ الحاجب بيده، وأقعده
حيث نفذ أمر السلطان، مما يلي قاضي المالكية واستمر حاله على ذلك.
ذكر
بعض علماء مصر وأعيانها
صفحة : 19
فمنهم شمس الدين
الأصبهاني إمام الدنيا في المعقولات، ومنهم شرف الدين الزواوي المالكي، ومنهم
برهان الدين ابن بنت الشاذلي نائب قاضي القضاة بجامع الصالح، ومنهم ركن الدين
بن القوبع التونسي من الأئمة في المعقولات، ومنهم شمس الدين بن عدلان كبير
الشافعية، ومنهم بهاء الدين بن عقيل فقيه كبير، ومنهم أثير الدين أبو حيان محمد
بن يوسف بن حيان الغرناطي، وهو أعلمهم بالنحو، ومنهم الشيخ الصالح بدر الدين
عبد الله المنوفي، ومنهم برهان الدين الصفاقسي، ومنهم قوام الدين الكرماني،
وكان سكناه على سطح الجامع الأزهر، وله جماعة من الفقهاء والقراء يلازمونه
ويدرسون فنون العلم، ويفتي في المذاهب، ولباسه عباءة صوف خشنة، وعمامة صوف
سوداء ومن عاداته أن يذهب بعد صلاة العصر إلى موضع الفرج والنزهات، منفردا عن
أصحابه، ومنهم السيد الشريف شمس الدين ابن بنت الصاحب تاج الدين بن حناء، ومنهم
شيخ شيوخ القراء بديار مصر مجد الدين الأقصرائي، نسبة إلى أقصرا، من بلاد
الروم، ومسكنه سرياقص، ومنهم الشيخ جمال الدين الحويزائي. والحويزا على مسيرة
ثلاثة أيام من البصرة، ومنهم نقيب الأشراف بديار مصر السيد الشريف المعظم بدر
الدين الحسيني من كبار الصالحين، ومنهم وكيل بيت المال المدرس بقبة الإمام
الشافعي مجد الدين بن حرمي، ومنهم المحتسب بمصر نجم الدين السهرتي من كبار
الفقهاء، وله بمصر رياسة عظيمة وجاه.
ذكر
يوم المحمل
وهو يوم دوران الجمل يوم
مشهود وكيفية ترتيبهم فيه أنه يركب فيه القضاة الأربعة، ووكيل بيت المال
والمحتسب وقد ذكرنا جميعهم، ويركب معهم أعلام الفقهاء وأمناء الرؤساء وأرباب
الدولة، ويقصدون جميعا باب القلعة، دار الملك الناصر، فيخرج إليهم المحل على
جمل، وأمامه الأمير المعين لسفر الحجاز في تلك السنة، ومعه عسكره والسقاؤون على
جمالهم، ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء، ثم يطوفون بالمحمل وجميع من
ذكرنا معه بمدينة القاهرة ومصر، والحداة يحدون أمامهم، ويكون ذلك في رجب فعند
ذلك تهيج العزمات، وتنبعث الأشواق، وتتحرك البواعيث، ويلقي الله تعالى العزيمة
على الحج في قلب من يشاء من عباده، فيأخذون في التأهب لذلك والاستعداد. ثم كان
سفري من مصر على طريق الصعيد برسم الحجاز الشريف. فبت ليلة خروجي بالرباط الذي
بناه الصاحب تاج الدين بن حناء بدير الطين، وهو رباط عظيم بناء على مفاخر
عظيمة، وآثار كريمة، أودعها فيه وهي قطعة من قصعة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، والميل الذي كان يكتحل به، والدرفش وهو الأشفا الذي كان يخصف به نعله،
ومصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بخط يده رضي الله عنه. ويقال: إن
الصاحب اشترى ما ذكرناه من الآثار الكريمة النبوية بمائة ألف درهم، وبنى
الرباط، وجعل فيه الطعام للوارد والصادر، والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة،
نفعه الله تعالى بقصده المبارك. ثم خرجت من الرباط المذكور، ومررت بمنية
القائد، وهي بلدة صغيرة على ساحل النيل. ثم سرت منها إلى مدينة بوش وضبطها بضم
الباء الموحدة واحدة شين معجم وهذه المدينة أكثر بلاد مصر كتانا، ومنها
يجلب إلى سائر الدنيا المصرية، وإلى إفريقية. ثم سافرت منها، فوصلت إلى مدينة
دلاص وضبط اسمها بفتح الدال المهملة وآخره صاد مهملة ، وهذه
المدينة كثيرة الكتان أيضا، كمثل التي ذكرناها قبلها. ويحمل أيضا منها إلى ديار
مصر وإفريقية. ثم سافرت منها إلى مدينة ببا وضبط اسمها بباءين موحدتين
أولاهما مكسورة . ثم سافرت منها إلى مدينة البهنسا، وهي مدينة كبيرة
وبساتينها كثيرة، وضبط اسمها بفتح الموحدة وإسكان الهاء وفتح النون
والسين وتصنع بهذه المدينة ثياب الصوف الجيدة. وممن لقيته بها قاضيها
العالم شرف الدين، وهو كريم النفس فاضل. ولقيت بها الشيخ الصالح أبا بكر
العجمي، ونزلت عنده وأضافني. ثم سافرت منها إلى مدينة منية ابن خصيب ، وهي
مدينة كبيرة الساحة متسعة المساحة مبنية على شاطئ النيل. وحق حقيق لها على بلاد
الصعيد التفضيل. بها المارس والمشاهد والزوايا والمساجد وكانت في القديم منية
عامل مصر الخصيب.
حكاية
خصيب
صفحة : 20
يذكر أن أحد الخلفاء
من بني العباس رضي الله عنهم غضب على أهل مصر. فآلى أن يولي عليهم أحقر عبيده،
وأصغرهم شأنا، قصدا لإرذالهم والتنكيل بهم وكان خصيب أحقرهم إذ كان يتولى تسخين
الحمام فخلع عليه، وأمره على مصر، وظنه أنه يسير فيهم سيرة سوء، ويقصدهم
بالإذاية، حسبما هو المعهود ممن ولي عن غير عهد بالعز. فلما استقر خصيب بمصر،
سار في أهلها أحسن سيرة. وشهر بالكرم والإيثار. فكان أقرب الخلفاء وسواهم
يقصدونه، فيجزل العطاء لهم، ويعودون إلى بغداد شاكرين لما أولاهم. وأن الخليفة
افتقد بعض العباسيين وغاب عنه مدة ثم أتاه، فسأله عن مغيبه، فأخبره أنه قصد
خصيبا. وذكر له ما أعطاه خصيب. وكان عطاء جزيلا. فغضب الخليفة، وأمر بسمل عيني
خصيب، وإخراجه من مصر إلى بغداد، وأن يطرح في أسواقها. فلما ورد الأمر بالقبض
عليه حيل بينه وبين دخوله منزله وكانت بيده ياقوته عظيمة الشأن فخبأها عنده،
وخاطها في ثوب له ليلا وسملت عيناه، وطرح في أسواق بغداد. فمر به بعض الشعراء
فقال له يا خصيب: إني كنت قصدتك من بغداد إلى مصر مادحا لك بقصيدة فوافقت
انصرافك عنها، وأحب أن تسمعها. فقال: كيف بسماعها وأنا على ما تراه ? فقال:
إنما قصدي سماعك لها. وأما العطاء فقد أعطيت الناس وأجزلت جزاك الله خيرا قال
فافعل فأنشد:
أنت الخصيب وهذه مصر
فتدفقا فكلاكمـا بـحـر فلما أتى علىآخرها قال له: افتق هذه الخياطة، ففعل ذلك.
فقال له: خذ الياقوتة. فأبى، فأقسم عليه أن يأخذها. فأخذها وذهب بها إلى سوق
الجوهريين. فلما عرضها عليهم قالوا له إن هذه لا تصلح إلا للخليفة. فرفعوا
أمرها إلى الخليفة، فأمر الخليفة بإحضار الشاعر واستفهمه عن شأن الياقوتة،
فأخبره بخبرها. فتأسف على ما فعله بخصيب وأمر بمثوله بين يديه، وأجزل له
العطاء، وحكمه فيما يريد. فرغب أن يعطيه هذه المنية، ففعل ذلك، وسكنها خصيب إلى
أن توفي وأورثها عقبه إلى أن انقرضوا. وكان قاضي هذه المنية أيام دخولي إليها
فخر الدين النويري المالكي، وواليها شمس الدين أمير خير كريم. دخلت يوما الحمام
بهذه البلدة، فرأيت الناس بها لا يستترون. فعظم ذلك علي وأتيته، فأعلمته بذلك.
فأمرني ألا أبرح، وأمر بإحضار المكترين للحمامات، وكتبت عليهم العقود، أنه متى
دخل أحد الحمام دون مئزر فإنهم يؤاخذون على ذلك. واشتد عليهم أعظم الاشتداد. ثم
انصرفت عنه وسافرت من منية ابن خصيب إلى مدينة منلوي وهي صغيرة مبنية على مسافة
ميلين من النيل وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الام وكسر الواو
. وقاضيها الفقيه شرف الدين الدميري بفتح الدال المهمل وكسر الميم
الشافعي. وكبارها قوم يعرفون ببني فضيل بنى أحدهم جامعا أنفق فيه صميم ماله.
وبهذه المدينة إحدى عشرة معصرة للسكر - ومن عوائدهم أنهم لا يمنعون فقيرا من
دخول معصرة منها فيأتي الفقير بالخبزة الحارة، فيطرحها في القدر التي يطبخ
السكر فيها، ثم يخرجها، وقد امتلأت سكرا فينصرف بها. وسافرت من منلوي المذكورة
إلى مدينة منفلوط وهي مدينة حسن رواؤها، مؤنق بناؤها على ضفة النيل، شهيرة
البركة وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الفاء وضم الام وآخرها
طاء مهمل .
حكاية:
صفحة : 21
أخبرني أهل هذه
المدينة أن الملك الناصر رحمه الله، أمر بعمل منبر عظيم، محكم الصنعة بديع
الإنشاء، برسم المسجد الحرام، زاده الله شرفا وتعظيما. فلما تم عمله، أمر أن
يصعد به في النيل ليجاز إلى بحر جدة، ثم إلى مكة شرفها الله، فلما وصل المركب
الذي احتمله إلى منفلوط، وحاذى مسجدها الجامع وقف، وامتنع من الجري مع مساعدة
الريح. فعجب الناس من شأنه أشد العجب، وأقاموا أياما لا ينهض بهم المركب.
فكتبوا بخبره إلى الملك الناصر رحمه الله، فأمر أن يجعل ذلك المنبر بجامع مدينة
منفلوط، ففعل ذلك. وقد عاينته بها، ويصنع في هذه المدينة شبه العسل، يستخرجونه
من القمح ويسمونه النيدا. يباع بأسواق مصر. وسافرت من هذه المدينة إلى مدينة
أسيوط. وهي مدينة رفيعة أسواقها بديعة وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون
السين المهملة وضم الياء آخر الحروف واو وطاء مهملة وقاضيها شرف الدين بن
عبد الرحيم الملقب بحاصل ما ثم ، لقب اشتهر به وأصله أن القضاة
بديار مصر والشام بأيديهم الأوقاف والصدقات لأبناء السبيل، فإذا أتى فقير
لمدينة من المدن قصد القاضي بها، فيعطيه ما قدر له. فكان القاضي إذا أتاه
الفقير يقول له حاصل ما ثم أي لم يبق من المال الحاصل شيء فلقب بذلك ولزمه.
وبها من المشايخ الفضلاء الصالح شهاب الدين بن الصباغ، أضافني بزاويته. وسافرت
منها إلى مدينة أخميم، وهي مدينة عظيمة أصيلة البنيان عجيبة الشان، بها البربي
المعروف باسمه، وهو مبني بالحجارة، في داخله نقوش وكتابة للأوائل، لا تفهم في
هذا العهد، وصور الأفلاك والكواكب. ويزعمون أنها بنيت والنسر الطائر ببرج
العقرب. وبها صور الحيوانات وسواها. وعند الناس في هذه الصور أكاذيب لا يعرج
عليها. وكان بأخميم رجل يعرف بالخطيب، أمر على هدم بعض هذه البرابي، وابنتي
بحجارتها مدرسة. وهو رجل موسر معروف باليسار. ويزعم حساده أنه استفاد ما بيده
من المال من ملازمته لهذه البرابي. ونزلت من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي
العباس بن عبد الظاهر، وبها تربة جده عبد الظاهر. وله من الأخوة ناصر الدين
ومجد الدين وواحد الدين. ومن عادتهم أن يجتمعوا جميعا بعد صلاة الجمعة، ومعهم
الخطيب نور الدين المذكور وأولاده، وقاضي المدينة الفقيه مخلص، وسائر أهلها،
فيجتمعون للقرآن، ويذكرون الله إلى صلاة العصر. فإذا صلوها، قرأوا سورة الكهف،
ثم انصرفوا. وسافرت من أخميم إلى مدينة هو : مدينة كبيرة بساحل
النيل وضبطها بضم الهاء . نزلت منها بمدرسة تقي الدين ابن السراج.
ورأيتهم يقرأون بها في كل يوم بعد صلاة الصبح حزبا من القرآن، ثم يقرأون أوراد
الشيخ أبي الحسن الشاذلي وحزب البحر. وبهذه المدينة السيد الشريف أبو محمد عبد
الله الحسني من كبار الصالحين. كرامة له: دخلت إلى هذا الشريف متبركا برؤيته
والسلام عليه، فسألني عن قصدي، فأخبرته أني أريد البيت الحرام على طريق جدة.
فقال لي: لا يحصل لك هذا في هذا الوقت، فارجع. وإنما تحج أول حجة على الدرب
الشامي. فانصرفت عنه، ولم أعمل على كلامه. ومضيت في طريقي حتى وصلت إلى عيذاب.
فلم يتمكن لي السفر، فعدت راجعا إلى مصر ثم إلى الشام. وكان طريقي في أول حجاتي
على الدرب الشامي، حسبما أحبرني الشريف نفع الله به. ثم سافرت إلى مدينة قنا،
وهي صغيرة حسنة الأسواق وضبط اسمها بقاف مكسورة ونون . وبها قبر
الشريف الصالح الولي صاحب البراهين العجيبة والكرامات الشهيرة عبد الرحيم
القناوي رحمة الله عليه. ورأيت بالمدرسة السيفية حفيده شهاب الدين أحمد.
صفحة : 22
وسافرت من هذا البلد
إلى مدينة قوص وهي بضم القاف . مدينة عظيمة لها خيرات عميمة،
بساتينها مورقة، وأسواقها مونقة، ولها المساجد الكثيرة، والمدارسة الأثيرة، وهي
منزل ولاة الصعيد. وبخارجها زاوية الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار، وزاوية
الأفرم ، وبها اجتماع الفقراء المتجردين في شهر رمضان من كل سنة، ومن علمائها
القاضي جمال الدين بن السديد، والخطيب بها فتح الدين بن دقيق العيد أحد الفصحاء
البلغاء الذين حصل لهم السبق في ذلك، لم أر من يماثله إلا خطيب المسجد الحرام
بهاء الدين الطبري، وخطيب مدينة خوارزم حسام الدين المشاطي، وسيقع ذكرهما،
ومنهم الفقيه بها ء الدين عبد العزيز المدرس بمدرسة المالكية، ومنهم الفقيه
برهان الدين إبراهيم الأندلسي، له زاوية عالية. ثم سافرت إلى مدينة الأقصر
وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الصاد المهمل ، وهي ضغيرة حسنة، وبها قبر
الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري. وعليه زاوية، وسافرت منها إلى مدينة أرمنت
وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الراء وميم مفتوحة ونون ساكنة وتاء فوقية ،
وهي صغيرة ذات بساتين مبنية على ساحل النيل. أضافني قاضيها، وأنسيت اسمه. ثم
سافرت منها إلى مدينة أسنا وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان السين المهمل
ونون ، مدينة عظيمة متسعة الشوارع ضخمة المنافع كثيرة الزوايا والمدارس
والجوامع، لها أسواق حسان، وبساتين ذات أفنان. قاضيها قاضي القضاة شهاب الدين
بن مسكين. أضافني وأكرمني، وكتب إلى نوابه بإكرامي. وبها من الفضلاء الشيخ صالح
نور الدين علي، والشيخ الصالح عبد الواحد المكناسي، وهو على هذا العهد صاحب
زاوية بقوص. ثم سافرت منها إلى مدينة أدفو وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان
الدال المهمل وضم الفاء . وبينها وبين مدينة أسنا مسيرة يوم وليلة في
صحراء ثم جزنا النيل من مدينة أدفو إلى مدينة العطواني، ومنها اكترينا الجمال.
وسافرنا من طائفة من العرب تعرف بدغيم بالغين المعجمة في صحراء لا
عمارة بها إلا أنها آمنة السيل. وفي بعض منازلها نزلنا حميثرا حيث قبر ولي الله
أبي الحسن الشاذلي، وقد ذكرنا كرامته في أخباره أنه يموت بها. وأرضها كثيرة
الضباع. ولم نزل ليلة مبيتنا بها نحارب الضباع. ولقد قصدت رحلي ضبع منها فمزقت
عدلا كان به، واجتزت منه جراب تمر، وذهبت به. فوجدناه لما أصبحنا ممزقا مأكولا
معظم ما كان فيه. ثم لما سرنا خمسة عشر يوما وصلنا إلى مدينة عيذاب، وهي مدينة
كبيرة كثيرة الحوت واللبن، ويحمل إليها الزرع والتمر من صعيد مصر. وأهلها
البجاة ، وهم سود الألوان يلتحفون بملاحف صفراء، ويشدون على رؤوسهم عصائب يكون
عرض العصابة أصبعا وهم لا يورثون البنات. وطعامهم ألبان الإبل ويركبون المهاري،
ويسمونها الصهب. وثلث المدينة للملك الناصر وثلثاها لملك البجاة، وهو يعرف
بالحدربي بفتح الحاء المهمل وإسكان الدال وراء مفتوحة وباء موحدة وياء
وبمدينة عيذاب مسجد ينسب للقسطلاني شهير البركة. رأيته وتبركت به. وبها الشيخ
الصالح موسى والشيخ المسن محمد المراكشي. زعم أنه ابن المرتضى ملك مراكش، وأن
سنه خمس وتسعون سنة. ولما وصلنا إلى عيذاب وجدنا الحدربي سلطان البجاة يحارب
الأتراك، وقد خرق المراكب، وهرب الترك أمامه فتعذر سفرنا في البحر. فبعنا ما
كنا أعددناه من الزاد، وعدنا مع العرب الذين اكترينا الجمال منهم إلى صعيد مصر،
فوصلنا إلى مدينة قوص التي تقدم ذكرها،وانحدرنا منها في النيل، وكان أوان مده،
فوصبلنا بعد مسيرة ثمان من قوص إلى مصر، فبت بصر ليلة واحدة، وقصدت بلاد الشام.
وذلك في منتصف شعبان سنة ست وعشرين فوصلت إلى مدينة بلبيس ، وضبط اسمها
بفتح الموحدة الأولى وفتحو الثانية ثم ياء آخر الحروف مسكنة وسين مهملة ،
وهي مدينة كبيرة، ذات بساتين، كثيرة، ولم ألق بها من يجب ذكره.
صفحة : 23
ثم وصلت إلى
الصالحية. ومنها دخلنا الرمال، ونزلنا منازلها، مثل السوادة والورادة والمطيلب
والعريش والخروبة. بكل منزل منها فندق. وهم يسمونه الخان. ينزله المسافرون
بدوابهم. وبخارج كل خان ساقية للسبيل، وحانوت يشتري منها المسافر ما يحتاجه
لنفسه ودابته. ومن منازلها قطيا المشهورة وهي بفتح القافغ وسكون الطاء
وياء آخر الحروف مفتوحة وألف. والناس يبدلون ألفها هاء تأنيث . وبها تؤخذ
الزكاة من التجار، وتفتش أمتعتهم، ويبحث عما لديهم أشد البحث. وفقيها الدواوين
والعمال والكتاب، والمشهود.ومجباها في كل يوم ألف دينار من الذهب. ولا يجوز
عليها أحد من الشام إلا ببراءة من مصر. ولا إلى مصر إلا ببراءة من الشام،
احتياطا على أموال الناس، وتوقيا من الجواسيس العراقيين. وطريقها في ضمان العرب
قد وكلوا بحفظه. فإذا كان اليل مسحوا على الرمل حتى لا يبقى به أثر، ثم يأتي
الأمير صباحا، فينظر إلى الرمل فإن وجد به أثرا طالب العرب بإحضضار مؤثره،
فيذهبون في طلبه، فلا يفوتهم فيأتون به الأمير، فيعاقبه بما شاء، وكان بها في
عهد وصولي إليها عز الدين أستاذ الداراقماري من خيار الأمراء، أضافني وأكرمنبي
وأباح الجواز لمن كان معي. وبين يديه عبد الجليل المغربي والوقاف، وهو يعرف
المغاربة وبلادهم، فيسأل من ورد منهم من أي البلاد هو لئلا يلبس عليهم، فإن
المغاربة لا يعترضون جوازهم على قطيا. ثم سرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة، وهي
أول بلاد الشام مما يلي مصر متسعة الأقطار، كثيرة العمارة حسنة الأسواق، بها
المساجد العديدة والأسوار عليها. وكان بها جامع حسن والمسجد الذس تقام الآن به
الجمعة فيها بناه الأمير المعظم الجاولي. وهو أنيق البناء محكم الصنعة ومنبره
من الرخام الأبيض وقاضي غزة بدر الدين تالسلختي الحوراني ومدرسها علم الدين بن
سالم. وبنو سالم كبراء هذه المدينة ومنهم شمس الدين قاضي القدس. ثم سافرت من
غزة إلى مدينة الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما زهي مدينة صغيرة
الساحة كبيرة المقدار مشرقة الأنوار حسنة المنظر عجيبة المخبر، في بطن واد،
ومسجدها أنيق الصنعة محكم العمل بديع الحسن سامي الارتفاع، مبني بالصخر
المنحوت. في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبرا. ويقال إن سليمان
عليه السلام امر الجن ببنائه وفي داخل المسجد الغار المكرم المقدس. فيه قبر
إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله على نبينا وعليهم. ويقابلهاو قبور ثلاثة، هي
قبور أزواجهم. وعن يمين المنبر، بلصق جدار القبلة موضع يهبط منه على درج رخام
محكمة العمل إلى مسلك ضيق، يفضي إلى ساحة مفروشة بالرخام، فيها صور القبور
الثلاثة. ويقال: إنها محاذية لها. وكان هنالك مسلك إلى الغار المبارك، وهو الآن
مسدود. وقد نزلت بهذا الموضع مرات ومما ذكره أهل العلم دليلا على صحة كون
الققبور الثلاثة الشريفة هنالك، ما نقلهمن كتاب علي بن جعفر الرازيالي سماه:
المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم و إسحاق ويعقوب. أسند فيه إلى أبي هريرؤة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أسري بي إلى بيت المقدس مر
بي جبريل على قبر إبراهيم فقال: انزل فصل ركعتين، فإن هنا قبر أبيك إبراهيم. ثم
مر بي على بيت لحم وقال: انزل فصل ركعتين، فإن هنا ولد أخوك عيسى عليه السلام.
ثم أتى بي الصخرة وذكر بقية الحديث.
صفحة : 24
ولما لقيت بهذه
المدينة المدرس تالصالح المعمر الإمام الخطيب برهان الدين الجعبري، أحد الصلحاء
المرضيين، والأئمة المشهورين. سألته عن صحة كون قبر الخليل عليه السلام هنالك
فقال لي: كل من لقيته من أهل العلنم يصححون أن هذه القبور قبور إبراهيم وإسحاق
ويعقوب على نبينا وعليهم السلام، وقبور زوجاتهم، ولا يطعن في ذلك إلا أهل البدع
وهو نقل الخلف عن السلف لا يشك فيه، ويذكر أن بعض الأئمة دخل إلى الغار، ووقف
عند قبر سارة؛ فدخل شيخ فقال له: أي هذه القبور هو قبر إبراهيم ? فأشار له إلى
قبره المعروف ثم دخل شاب فسأله كذلك، فأشار له إليه. ثم دخل صبي فسأله أيضا
فأشار له إليه فقال الفقيه أشهد أن هذا قبر إبراهيم عليه السلام لا شك. ثم دخل
إلى المسجد فصلى به وارتحل من الغد. وبداخل هذا المسجد أيضا قبر يوسف عليه
السبلام. وبشرقي حرم الخليل تربة لوط عليه السلام. وهي تل مرتفع، يشرف منه غور
الشام. وعلى قبره أبنية حسنة. وهو في بيت مه احسن البناء مبيض ولا ستور عليه.
وهنالك بحيرة لوط ، هي أجاج. يقال أنها موضع ديار قوم لوط وبمقربة من تربة لوط
مسجد اليقي، وهو على تل مرتفع له نور وإشراق ليس لسواه ولا يجاوره إلا دار
واحدة يسكنها قيمه. وفي المسجد بمقربة من بابه مخوضع منخفض في حجر صلد قد هيئ
فيه صورة محراب، لا يسع إلا مصليا واحدا، ويقال: إن إبراهيم سجد في ذلك الموضع
شكرا لله تعالى عند هلاك قوم لوط، فتحرك موضع سجوده،وساخ في الأرض قليلا.
وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام
وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام في أحدهما مكتوب منقوش بخط بديع بسم الله
الرحمن الرحيم لله العزة والبقاء وله ما ذرأ وبرأ وعلى خلقه كتب الفناء. وفي
رسول الله أسوة. هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه. وفي اللوح
الآخر منقوش صنعه محمد بن أبي سهل النقاش بمصر. وتحت ذلك هذه الأبيات:
أسكنت من كان في
الأحشاء مسكنه
بالرغم مني بين الترب والحجـر
يا قبر فاطمة بنت
ابـن فـاطـمة
بنت الأئمة بنت الأنجم الـزهـر
يا قبر ما فيك من
دين ومـن ورع
ومن عفاف ومن صون ومن خفر ثم سافرت من هذه المدينة إلى القدس. فزرت في طريقي
إليه تربة يونس عليه السلام، وعليها أبنية كبيرة ومسجد. وزرت أيضا بيت لحم،
موضع ميلاد عيسى عليه السلام، وبه أثر جذع النخلة، وعليه عمارة كثيرة. والنصارى
يعظمونه أشد التعظيم، ويضيفون من نزل به، ثم وصلنا إلى بيت المقدس، شرفه الله،
ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفل، ومصعد رسول الله عليه وسلم تسليما،
ومعرجة إلى السماء. والبلدة الكبيرة مبنية بالصخر المنحوت. وكان الملك الصالح
الفاضل صلاح الدين بن أيوب جزاه الله عن الإسلام خيرا، لما فتح هذه المدينة هدم
بض سورها. ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفا أن يقصدها الروم فيتمنعوا بها. ولم
يكن بهذه المدينة نهر فيما تقدم وجلب لها الماء في هذا العهد الأمير سيف الدين
تنكيز أمير دمشق.
ذكر
المسجد المقدس
وهو من المساجد العجيبة
الرائقة الفائقة الحسن، يقال: إنه لا يوجد على وجه الأرض مسجد أكبر منه، وإن
طوله من شرق إلى غربي سبعمائة واثنتان وخمسون ذراعا بالذراع المالكية وعرضه من
القبلة إلى الجوف أربعمائة ذراع وخمس وثلاثون ذراعا في جهاته الثلاث، وأماالجهة
القبلية منه فلا علم بها إلا بابا واحخدا، وهو الذي يدخل منه الإمام، والمسجد
كله فضاء وغير مسقف في النهاية من إحكام الفعل وإتقان الصنعة مموه لبالذهب
والأصبغة الرائقة، وفي المسجد مواضع سواه مسقفة.
ذكر
قبة الصخرة
صفحة : 25
وهي من اعجب المباني
وأتقنها وأغربها شكلا. وقد توفر حظها من المحاسن، وأخذت من كل بديعة بطرف، وهي
قائمة على نشز ي وسط المسجد، يصعد إليها في درج رخام. ولها أبواب. والدائر بها
مفروش بالرخام أيضا محكم الصنعة، وكذلك داخلها في ظاهرها وباطنها من أنواع
الزواقة ورائق الصنعة ما يعجز الواصف. وأكثر ذفك مغشى بالذهب فهي تتلألأ
أنوارأص، أو تلمع لمعان البرق. يحار بصر متأملها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها
عن تمثيلها. وفي وسط القبة الصخرة الكريمة إلتي جاء ذكرها في الآثار. فإن النبي
صلى الله عليه وسلم عرج منها إلى السماء. وهي صخرة صماء، ارتفاعها نحو قامة.
وتحتها مغارة مقدار بيت صغير. ارتفاعها نحو قامة أيضا ينزل إلها على درج.
وهنالك شكل محراب. وعلى الصخر شباكان اثنان محكما العمل، يغلقان عليهما أحدهما،
وهو الذي يلي الصخرة من حديد بديع الصنعة والثاني الخشب. وفي القبة درقة كبيرة
من حديد، معلقة هنالك. والناس يزعمون أنها درقة حمزة بن عبد المطلب رضي الله
عنه.
ذكر
بعض المشاهد المباركة بالقدس الشريف
فمنها بعدوة الوادي
المعروف بزودي جهنم في شرقي البلد، على تل مرتفع هنالك، بنية يقال: إنها مصعد
عيسى عليه السلام إلى السماء. ومنها أيضا قبر رابعة البدوية، منسوبة إلى
البادية وهي خلاف رابعة العدوية الشهيرة. وفي بطن الوادي المذكور كنيسة يعظمها
النصارى، ويقولون: إن قبر مريم عليها السلام بها. وهنالك أيضا كنيسة أخرى
معظمة، يحجها النصارى، وهي التي يكذبون عليها، ويعتقدون أن قبر عيسى عليه
السلام بها. وعلى كل من يحجها ضريبة معلومة للمسلمين. وضروب من الإهانة يتحملها
على رغم أنفه. وهنالك موضع مهد عيسى عليه السلام يتبرك به.
ذكر
بعض فضلاء القدس
فمنهم قاضيه العالم شمس
الدين محمد بن سالم الغزي بفتح الغين ، وهو من أهل غزة وكبرائها.
ونمهم خطيبه الصالح الفاضل عماد الدين النابلسي، ومنهم المحدث المفتي شهاب
الدين الطبري، ومنهم مدرس المالكية وشيخ الخانقاه الكريمة أبو عبد الله محمد بن
مثبت الغرناطي نزيل القدس ومنها الشيخ الزاهد أبو علي حسن المعروف بالمحجوب من
كبار الصالحين، ومنهم الشيخ الصالح العابد أبو عبد الرحيم عبد الرحمن بن مصطفى
من أهل أرز الروم، وهو من تلامذة تاج الدين الرفاعي. صحبته ولبست منه خرقة
التصوف. ثم سافرت من القدس الشريف برسم زيارة ثغر عسقلان، وهو خراب. قد عاد
رسوما طامسة.، وأطلالا دارسة. وقل بلد جمع من المحاسن ما جمعته عسقلان إتقانا
وحسن وضع، وأصالة مكان، وجمعا بين مرافق البر والبحر وبها المشهد الشهير حيث
كان رأس الحسين بن علي عليه السلام، قبل أن ينتقل إلى القاهرة، وهو مسجد عظيم
سامي العلو، فيه جب اللماء أمر ببنائه بعض العبيد، وكتب ذلك على بابه وفي قبلة
هذا المزار مسجد كبير يعؤف بمسجد عمر لم يبق منه إلا حيطانه وفي أساطين رخام لا
مثل لها في الحسن وهي ما بين قائم وحصيد ومن جملتها أسطوانة حمراء عجيبة، يزعم
الناس أن النصارى احتملوها إلى بلادهم، ثم فقدوها، فوجدت في موضعها بعسقلان.
وفي القبلة من هذا المسجد بئر يعرف ببئر إبراهيم عليه السلام، ينزل إليها في
درج متسعة، ويدخل منها إلى بيوت، وفي كل ناحية من جهاتها الأربع تخرج من أسراب
مطوية بالحجارة. ماؤها عذب، وليس بالغزير. ويذكر الناس من فضائلها كثيرا.
وبظاهر عسقلان وادي النمل، ويقال: إنه المذكور في الكتاب العزيز. وبجبانة
عسقلارن من قبور الشهداء والأولياء ما لا يحصر لكثرته، أوقفنا عليهم قيم المزار
المذكور. وله جراية يجريها له ملك مصر، ومع ما يصل إليه من صدقات الزوار. ثم
سافرت منها إلى مدينة الرملة وهي في فلسطين مدينة كبيرة، كثيرة الخيرات، حسنة
الأسواق. وبها جامع الأبيض ز ويقال: إن في قبلته ثلاثمائة من الأنبياء، مدفونين
عليهم السلام. وفيها من كبار الفقهاء مجد الدين النابلسي. ثم خرجت منها إلى
مدينة مابلس، وهي مدينة عظيمة، كثيرة الأشجار مطردة الأنهار، من أكثر البلاد
الشام زيتونا. ومنها يحمل الزيت إلى مصر ودمشق. وبها تصنع حلواء الخروب، وتجلب
إلى دمشق وغيرها.
صفحة : 26
وكيفية عملها: أن
يطبخ الخروب، ثم يعصر، ويؤخذ ما يخرج منه من الرب فتصنع منه الحلواء. ويجلب ذلك
الرب أيضا إلى مصر والشام. وبها البطيخ المنسوب إليها وهو طيب عجيب. والمسجد
الجامع في نهاية من الإتقان والحسن. وفي وسطه بركة ماء عذب. ثم سافرت منها إلى
مدينة عجلون وهي بفتح العين المهملة ، وهي مدينة حسنة لها أسواق
كثيرة، وقلعة خطيرة. ويشقها نهر ماؤه عذب. ثم سافرت منها بقصد اللاذقية، فمررت
بالغور، وهو واد بين تلال به قبر أبي عبيدة ابن الجراح أمين هذه الأرض رضي الله
عنه، زرناه وعليه زاوية فيها الطعام لأبناء السببيل. وبتنا هنالك ليلة، ثم
وصلنا إلى القصير، وبه قبر معاذ بن جبل رضي الله عنه، تبركت أيضا بزيارته. ثم
سافرت على الساحل، فوصلت إلى مدينة عكة ، وهي خراب وكانت عكة قاعدة بلاد
الإفرنج بالشام، ومرسى سفنهم وتشبه قسطنطينية العظمى، وبشرقيها عين ماء عذب
تعرف بعين البقر يقال: إن الله تعالى أخرج منها البقر لآدم عليه السلام. وينزل
إليها بفي درج. وكان عليها مسجد بقي من محرابه. وبهذه المدينة قبر صالح عليه
السلام. ثم سافرت منها إلى مدينة صور، وهي خراب وبخارجها قرية معمورة وأكثر
أهلها أرفاض ولقد نزلت بها مرة على بعض المياه أريد الوضوء. فأتى بعض أهل تلك
القرية ليتوضأ فبدأ بغسل رجليه، ثم غسل وجهه، ولم يتمضمض ولا اسنتشق، ثم مسح
بعض رأسه، فأخذت عليه في فعله فقال لي: إن البناء إنما يكون ابتداؤه من الأساس.
ومدينة صور هي التي يضرب بها المثل في الحصانة المنعة. لأن البحر محيط بها من
ثلاث جهاتها. ولها بابان أحدهما للبر، والثاني للبحر. ولبابها الذي يشرع للبر
أربعة فصلات كلها في ستائر محيطة بالباب، وأما الباب الذي للبحر فهو بين برجين
عظيمين. وبناؤها ليس في بلاد الدنيا أعجب ولا أغرب شأنا منه، لأن البحر محيط
بها من ثلاث جاتها. وعلى الجهة الرابعة سور، تدخل السفن تحت السور وترسو هنالك.
وكان فيما تقدم بين البرجين سلسلة حديد معترضة ن، لا سبيل إلى الداخل هنالك،
ولا إلى الخارج إلا بعد حطها، وكان عليها الحراس والأمناء، فلا يدخل خارج، إلا
على علم منهم. وكانت لعكة أيضا ميناء مثلها، ولكنها تحمل إلا السفن الصغار، ثم
سافرتع منها إلى مدينة صيدا، وهي على ساحل البحر، حسنة كثيرة الفواكه يحمل منها
التين والزبيب والزيت إلى بلاد مصر: نزلت عند قاضيها مال الدين الأشموني
المصري، وهو حسن الأخلاق كريم النفس. ثم سافرت منها إلى مدينة طبرية. وكانت
فيما مضى مدينة كبيرة ضخمة، ولم يبق منها إلا رسوم تبنئ عن ضخامتها، وعظم
شأنها. وبها الحمامات العجيبة؛ لها بيتان أحدهما للرجال، والثاني للنساء.
وماؤها شديد الحرارة. ولها بحيرة الشهيرة، طولها نحو ستة فراسخ، وعرضها أزيد من
ثلاثة فراسخ. وبطبرية مسجد يعرف بمسجد الأنبياء، فيه قبر شعيب عليه السلام،
وبنته زوج موسى الكليم عليه السلام، وقبر سليمان عليه السلام، وقبر يهودا، وقبر
روبيل صلوا الله وسلامه على نبينا وعليهم. وقصدنا منها زيارة الجب الذي ألقي
فيه يوسف عليه السلام، وهو في صحن مسجد صغير وعليه زاوية. والجب كبير عميق،
شربنا من مائه المجتمع من ماء المطر وأخبرنا قمه أن الماء ينبع منه أيضا. ثم
سرنا إلى مدينة بيروت وهي صغيرة، حسنة الأسواق، وجامعها بديع الحسن ويجلب منها
إلى ديار مصر الفواكه. وقصدنا منها زيارة أبي يعقوب يوسف الذي يزعمون أنه من
كلوك المغرب. وهو بموضع يعرف بكرك نوح من بقاع العزيز، وعليه زاوية يطعم بها
الوارد. ويقال: إن السلطان صلاح الدين وقف عليها الأوقاف. وقيل السلطان نور
الدين وكانوا من الصالحين، ويذكر أنه كان ينسج الحصر ويقتات بثمنها.
حكاية أبي يعقوب يوسف
المذكور
صفحة : 27
يحكي أنه دخل مدينة
دمشق، فمرض بها مرضا شديدا، وأقام مطروحا بالأسواق. فلما برئ من مرضه، خرج إلى
ظاهر دمشق ليلتمس بستانا يكون حارسا له. فاستؤجر لحراسة بستان للملك نور الدين،
واقام في حراسته ستة أشهر فلما كان في أوان الفاكهة أتى السلطان إلى ذلك
البستان، وأمر وكيل البستان أبا يعقوب أن يأتي برمان يأكل منه السلطان، فأتاه
برمان. فوجده حامضا، فأمره أن يأتي بغيره، ففعل ذلك. فوجده أيضا حامضا. فقال له
الوكيل: أتكون حراسة هذا البستان منذ ستة أشهر ولا تعرف حلو من الحامض ? فقال:
إنما أستأجرتني على الحراسة لا على الكل، فأتى الوكيل إلى الملك فأعلمه بذلك
بعث إليه الملك، وكان قد رأى في المنام أنه يجمع مع أبي يعقوب، وتحصل له منه
فائدة، فتفرس أنه هو. فقال له: أنت أبو يعقوب ? قال: نعم. فقام إليه، وعانقه،
وأجلسه إلى جانبه، ثم احتمله إلى مجلسه، فأضافه بضيافة من الحلال المكتسب بكد
يمينه، وأقام عنده أياما. ثم خرج من دمشق فارا بنفسه في أوان البرد الشديد،
فأتى قرية من قراها. وكان بها رجل من الضعفاء فعرض عليه النزول عنده ففعل. وصنع
له مرقة، وذبح دجاجة فأتاه بها، وبخبز شعير فأكل من ذلك، ودعا اللرجل، وكان
عنده جملة أولاد، منهم بنت قد آن بناء زوجها عليها. ومن عوائدهم في تلك البلاد
أن البنت يجهزها أبوها، ويكون معظم الجهاز أواني النحاس، وبه يتفاخرون، وبه
يتبايعون. فقال أبو يعقوب للرجل: هل عندك شيء من النحاس. قال: نعم. قد اشتريت
منه لتجهيز هذه البنت، قال ائتني به أتاه به. فقال له: استعر من جيرانك ما
أمكنك منه، ففعل، وأحضر ذلك بين يديه فأوقد عليه النيران. وأخرج صرة كانت عنده
فيها الإكسير . فطرح منه على النحاس فعاد كله ذهبا، وتركه في بيت مقفل وكتب
كتابا إلى نور الدين ملك دمشق يعلمه بذلك. وينبهه على بناء مارستان للمرضى من
الغرباء، ويوقف عليه الأوقاف، ويبني الزوايا بالطرق، ويرضي أصحاب النحاس، ويعطي
صاحب البيت كفايته، وقال له في آخر الكتاب: وإن كان إبراهيم بن أدهم قد خرج عن
ملك خراسان فأنا قد خرجت من ملك المغرب، وعن هذه الصنعة والسلام، وفر من حينه،
وذهب صاحب البيت بالكتاب إلى الملك نور الدين، فوصل الملك إلى تلك القرية
واحتمل الذهب، بعد أن أرضى أصحاب النحاس، وصاحب البيت. وطلب أبا يعقوب فلم يجد
له أثرا ولا وقع له على خبر. فعاد إلى دمشق وبنى المارستان المعروف باسمه الذي
ليس له في المعمور مثله. ثم وصلت إلى مدينة طرابلس، وهي إحدى قواعد الشام،
وبلدانها الضخام. تخترقها الأنهار، وتحفها البساتين والأشجار، ويكنفها البحر
بمرافقه العميمة، والبر بخييراته المقيمة. ولها الأسواق العجيبة، والمسارح
الخصيبة. والبحر ميلين منها. وهي حديثة البناء. وأما طرابلس القديمة فكانت على
ضفة البحر وتملكها الروم زمانا فلما استرجعها الملك الظاهر خربت، واتخذت هذه
الحديثة ز وبهذه المدينة نحو أربعين من أرماء الأتراك. وأميرها طيلان الحاجب
المعروف بملك الأمراء. ومسكنه بالدار المعروفة بدار السعادة. ومن عوائده أن
يركب في كل يوم اثنين وخميس ويركب معه الأمراء والعساكر. ويخرج إلى ظاهر
المدينة. فإذا عاد إليها. وقارب الوصول إلى منزله، ترجل الأمراء، ونزلوا عن
دوابهم، ومشوا بيه يده، حتى يدخل منزله، وينصرفون وتضرب الطبلخانة عند دار كل
أمير منهم بعد صلاة المغرب من كل يوم، وتوقد المشاعل. وممن كان بها من الأعلام
كاتب السر بهاء الدين بن غانم أحد الفضلاء الحسباء معروف بالسخاء والكرم، وأخوه
حسام الدين هو شيخ القدس الشريف، وقد ذكرناه، وأخوهما علاء الدين كاتب السلر
بدمشق. ومنهم وكيل بيت المال قوام الدين بن مكين من أكابر الرجال. ومنهم قاضي
قضاتها شمس الدين بن النقيب من أعلام علماء الشام. وبهذه المدينة حمامات حسان
منها حمام القاضي القرمي. وحمام سندمور. وكان سندمور أمير هذه المدينة. ويذكر
عنه أخبار كثيرة في الشدة على أهل الجنايات. منها امرأة شكت إليه بان أحد
مماليكه الخواص تعدى عليها في لبن كانت تبيعه فشربه، ولم تكن لها بينة. فأمر به
فوسط فخرج اللبن من مصرنه. وقد اتفق مثل هذه الحكاية للعتريس أحد أمراء الملك
الناصر أيام إمارته على عيذاب. واتفق مثلها للملك كبك سلطان تركستان. ثم سافرت
من طرابلس إلى حصن الأكراد، وهو بلد
صفحة : 28
صغير كثير الأشجار
والأنهار بأعلى تل. وبه زاوية تعرف بزاوية الإبراهيمي نسبة إلى بعض كبراء
الأمراء. ونزلت عند قاضيها ولا أحقق الان اسمه. ثم سافرت إلى مدينة حمص وهي
مدينة مليحة، أرجاؤها مونقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة
الشوارع، وجامعها متميز بالحسن الجامع، وفي وسطه ماء. وأهل حمص عرب لهم فضل
وكرم. وبخارج هذه المدينة قبر خالد بن الوليد سيف الله ورسوله، وعليه زاوية
ومسجد وعلى القبر كسوة سوداء. وقاضي هذه المدينة جمال الدين الشريشي من أجمل
الناس صورة وأحسنهم سيرة ز ثم سافرت منها إلى مدينة حماة إحدى أمهات الشام
الرفيعة، ومدائنها البديعة، ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق، تحفها البساتين
والجنات، عليها النواعير كالأفلاك الدائرات، يشقها النهر العظيم المسمى
بالعاصي. ولها ربض سمي بالمنصورية أعظم من المدينة، فيه الأسواق الحافلة،
والحمامات الحسان، وبحماة الفواكه الكثيرة ومنها المشمش اللوزي، إذا كسرت نواته
وجدت في داخلها لوزة حلوة. قال ابن جزي: وفي هذه المدينة ونهرها ونواعيرها
وبساتينها يقول الأديب الرحال نور الدين أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العبسي
العماري الغرناطي نسبة لعمار بن ياسر رضي الله عنه:غير كثير الأشجار والأنهار
بأعلى تل. وبه زاوية تعرف بزاوية الإبراهيمي نسبة إلى بعض كبراء الأمراء. ونزلت
عند قاضيها ولا أحقق الان اسمه. ثم سافرت إلى مدينة حمص وهي مدينة مليحة،
أرجاؤها مونقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة الشوارع،
وجامعها متميز بالحسن الجامع، وفي وسطه ماء. وأهل حمص عرب لهم فضل وكرم. وبخارج
هذه المدينة قبر خالد بن الوليد سيف الله ورسوله، وعليه زاوية ومسجد وعلى القبر
كسوة سوداء. وقاضي هذه المدينة جمال الدين الشريشي من أجمل الناس صورة وأحسنهم
سيرة ز ثم سافرت منها إلى مدينة حماة إحدى أمهات الشام الرفيعة، ومدائنها
البديعة، ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق، تحفها البساتين والجنات، عليها
النواعير كالأفلاك الدائرات، يشقها النهر العظيم المسمى بالعاصي. ولها ربض سمي
بالمنصورية أعظم من المدينة، فيه الأسواق الحافلة، والحمامات الحسان، وبحماة
الفواكه الكثيرة ومنها المشمش اللوزي، إذا كسرت نواته وجدت في داخلها لوزة
حلوة. قال ابن جزي: وفي هذه المدينة ونهرها ونواعيرها وبساتينها يقول الأديب
الرحال نور الدين أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العبسي العماري الغرناطي نسبة
لعمار بن ياسر رضي الله عنه:
حمى الله من حـمـاة
مـنـاظـرا
وقفت عليها السمع والفكر والطرفا
تغنى حـمـام أم
تـمـيل خـمـائل
وتزهى مباني تمنع الواصف الوصفا
يلومونني أن أعصي
الصون والنهـى
بها وأطيع الكأس واللهو والقصفـا
إذا كان فيها النهر
عاص فطـيف لا
أحاكيه عصيانا وأشربهـا صـرفـا
وأشدو لدى تلك
النواعـير شـدوهـا
وأغلبها رقصا وأشبهـهـا غـرفـا
تئن وتذري دمعـهـا
فـكـأنـهـا
تهيم بمرآها وتسألهـا الـعـطـفـا ولبعضهم في نواعيرها ذاهبا مذهب التورية:
وناعورة رقت لعظم
خطـيئتـي وقـد
عاينت قصدي من المنزل القـاصـي
بكت رحمة لي ثم باحت
بشـجـوهـا
وحسبك أن الخشب تبكي على العاصي ولبعض المتأخرين فيها أيضا من التورية:
يا سادو سكنوا حماة
وحـقـكـم
ما حلت عن تقوى وعن إخلاص
والطرف بعدكم إذا
اذكر اللـقـا
يجري المدامع طائعا كالعاصي ثم سافرت إلى مدينة المعرة، التي ينسب إليها الشاعر
أبو العلاء المعري، وكثير سواه من الشعراء. قال ابن جزي: إنما سميت بمعرة
النعمان لأن النعمان بن بشير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي
له ولد أيام إمارته على حمص، فدفنه بالمعرة، فعرفت به. وكانت قبل ذلك تسمى
القصور. وقيل أن النعمان جبل مطل عليها سميت به.
صفحة : 28
صغير كثير الأشجار
والأنهار بأعلى تل. وبه زاوية تعرف بزاوية الإبراهيمي نسبة إلى بعض كبراء
الأمراء. ونزلت عند قاضيها ولا أحقق الان اسمه. ثم سافرت إلى مدينة حمص وهي
مدينة مليحة، أرجاؤها مونقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة
الشوارع، وجامعها متميز بالحسن الجامع، وفي وسطه ماء. وأهل حمص عرب لهم فضل
وكرم. وبخارج هذه المدينة قبر خالد بن الوليد سيف الله ورسوله، وعليه زاوية
ومسجد وعلى القبر كسوة سوداء. وقاضي هذه المدينة جمال الدين الشريشي من أجمل
الناس صورة وأحسنهم سيرة ز ثم سافرت منها إلى مدينة حماة إحدى أمهات الشام
الرفيعة، ومدائنها البديعة، ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق، تحفها البساتين
والجنات، عليها النواعير كالأفلاك الدائرات، يشقها النهر العظيم المسمى
بالعاصي. ولها ربض سمي بالمنصورية أعظم من المدينة، فيه الأسواق الحافلة،
والحمامات الحسان، وبحماة الفواكه الكثيرة ومنها المشمش اللوزي، إذا كسرت نواته
وجدت في داخلها لوزة حلوة. قال ابن جزي: وفي هذه المدينة ونهرها ونواعيرها
وبساتينها يقول الأديب الرحال نور الدين أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العبسي
العماري الغرناطي نسبة لعمار بن ياسر رضي الله عنه:غير كثير الأشجار والأنهار
بأعلى تل. وبه زاوية تعرف بزاوية الإبراهيمي نسبة إلى بعض كبراء الأمراء. ونزلت
عند قاضيها ولا أحقق الان اسمه. ثم سافرت إلى مدينة حمص وهي مدينة مليحة،
أرجاؤها مونقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة الشوارع،
وجامعها متميز بالحسن الجامع، وفي وسطه ماء. وأهل حمص عرب لهم فضل وكرم. وبخارج
هذه المدينة قبر خالد بن الوليد سيف الله ورسوله، وعليه زاوية ومسجد وعلى القبر
كسوة سوداء. وقاضي هذه المدينة جمال الدين الشريشي من أجمل الناس صورة وأحسنهم
سيرة ز ثم سافرت منها إلى مدينة حماة إحدى أمهات الشام الرفيعة، ومدائنها
البديعة، ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق، تحفها البساتين والجنات، عليها
النواعير كالأفلاك الدائرات، يشقها النهر العظيم المسمى بالعاصي. ولها ربض سمي
بالمنصورية أعظم من المدينة، فيه الأسواق الحافلة، والحمامات الحسان، وبحماة
الفواكه الكثيرة ومنها المشمش اللوزي، إذا كسرت نواته وجدت في داخلها لوزة
حلوة. قال ابن جزي: وفي هذه المدينة ونهرها ونواعيرها وبساتينها يقول الأديب
الرحال نور الدين أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العبسي العماري الغرناطي نسبة
لعمار بن ياسر رضي الله عنه:
حمى الله من حـمـاة
مـنـاظـرا
وقفت عليها السمع والفكر والطرفا
تغنى حـمـام أم
تـمـيل خـمـائل
وتزهى مباني تمنع الواصف الوصفا
يلومونني أن أعصي
الصون والنهـى
بها وأطيع الكأس واللهو والقصفـا
إذا كان فيها النهر
عاص فطـيف لا
أحاكيه عصيانا وأشربهـا صـرفـا
وأشدو لدى تلك
النواعـير شـدوهـا
وأغلبها رقصا وأشبهـهـا غـرفـا
تئن وتذري دمعـهـا
فـكـأنـهـا
تهيم بمرآها وتسألهـا الـعـطـفـا ولبعضهم في نواعيرها ذاهبا مذهب التورية:
وناعورة رقت لعظم
خطـيئتـي وقـد
عاينت قصدي من المنزل القـاصـي
بكت رحمة لي ثم باحت
بشـجـوهـا
وحسبك أن الخشب تبكي على العاصي ولبعض المتأخرين فيها أيضا من التورية:
يا سادو سكنوا حماة
وحـقـكـم
ما حلت عن تقوى وعن إخلاص
والطرف بعدكم إذا
اذكر اللـقـا
يجري المدامع طائعا كالعاصي ثم سافرت إلى مدينة المعرة، التي ينسب إليها الشاعر
أبو العلاء المعري، وكثير سواه من الشعراء. قال ابن جزي: إنما سميت بمعرة
النعمان لأن النعمان بن بشير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي
له ولد أيام إمارته على حمص، فدفنه بالمعرة، فعرفت به. وكانت قبل ذلك تسمى
القصور. وقيل أن النعمان جبل مطل عليها سميت به.
صفحة : 29
والمعرة مدينة كبيرة
حسنة، أكثر شجرها التين والفستق ومنها يحمل إلى مصر والشام. وبخارجها على فرسخ
منها قبر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز. ولا زاوية عليه ولا خديم له. وسبب
ذلك أنه وقع في بلاد صنف من الرافضة أرجاس، يبغضون العشرة من الصحابة رضي الله
عنهم، ولعن مبغضهم، ويبغضون كل من اسمعه عمر وخصوصا عمر بن عبد العزيز رضي الله
عنه لما كان من فعله في تعظيم علي رضي الله عنه - ثم سرنا منها إلى مدينة سرمين.
وهي حسنة كثيرة البساتين، وأكثر شجرها الزيتون. بها يصنعون الصابون الأجري،
ويجلب إلى مصر والشام. ويصنع بها أيضا الصابون المطيب لغسل الأيدي، ويصبغونه
بالحمرة والصفرة. ويصنع بها ثياب قطن حسان تنسب إليها. وأهلها سبابون يبغضون
العشرة. ومن العجب أنهم لا يذكرون لفظ العشرة وينادي سماسرتهم بالأسواق على
السلع، فإذا بلغوا إلى العشرة قالوا تسعة وواحد. وحضر بها بعض الأتراك يوما
فسمع سمسارا ينادي تسعة وواحد فضربه بالدبوس على رأسه وقال: قل عشرة بالدبوس.
وبها المسجد جامع فيه تسع قباب. ولم يجعلوها عشرة قياما بمذهبهم القبيح - ثم
سرنا إلى مدينة حلب، المدينة الكبرى والقاعدة العظمى. قال أبو الحسين بن جبير
في وصفها: قدرها خطير وذكرها في كل زمان يطير خطابها من الملوك كثير، ومحلها من
النفوس أثير، فكم هاجت من كفاح وسل عليها من بيض الصفاح قلعة شهيرة الامتناع،
بائنة الارتفاع، تنزهت حصانة من أن ترم أو تستطاع منحوتة الأجزاء، موضوعة على
نسبة اعتدال واستواء، قد طاولت الأيام والأعوام، ووسعت الخواص والعوام، أين
أمراؤها الحمدانيون وشعراؤها ? فني جميعهم، ولم يبق إلا بناؤها. فيا عجبا لبلاد
تبقى ويذهب ملاكها، ويهلكون ولا يقضي هلاكها. وتخطب بعدهم فلا يعتذر أملاكها،
وترام فيتيسر بأهون شيء إدراكها. هذه حلب كم أدخلت ملوكها في خبر كان، ونسخت
صرف الزمان بالمكان. أنث اسمها، فتحلت بحلية الغوان، وأتت بالعذر فيمن دان
وانجلت عروسا بعد سيف دولتها ابن حمدان. هيهات سيهرم شبابها، ويعدم خطابها،
ويسرع فيها بعد حين خرابها. وقلعة حلب تسمى الشهباء. بداخلها جبلان ينبع منهما
الماء، فلا تخاف الظمأ ويطيف بها سوران. وعليها خندق عظيم ينبع منه الماء.
وسورها متداني الأبراج وقد انتظمت بها العلالي العجيبة المفتحة الطيقان. وكل
برج منها مسكون. والطعام لا يتغير بهذه القلعة على طول العهد. وبها مشهد يقصده
بعض الناس، يقال: إن الخليل عليه السلام كان يتعبد به. وهذه القلعة تشبه قلعة
رحبة مالك بن طوق التي على الفرات بين الشام والعراق. ولما قصد قازان طاغية
التتر مدينة حلب حاصر هذه القلعة أياما، ونكص عنها خائبا، قال ابن جزي: وفي هذه
القلعة يقول الخالدي شاعر سيف الدولة:
وخرقاء قد قامت على
من يرومهـا
بمرقبها العالي وجانبها الصـعـب
يجر عليها الجـو
جـيب غـمـامة
ويلبسها عقدا بأنجمـه الـشـهـب
إذا ما سرى برق بدت
من خلالـه
كما لاحت العذراء من خلل السحب
فكم من جنود قد
أماتـت بـغـصة
وذي سطوات قد أبانت على عقب وفيها يقول أيضا وهو من بديع النظم:
وقلعة عانق العنقاء
سافـلـهـا
وجاز منطقة الجوزاء عالـيهـا
لا تعرف القطر إذ
كان الغمام لها
أرضا توطأ قطريه مواشـيهـا
إذا الغمامة راحت
غاض ساكنها
حياضها قبل أن تهمي عواليهـا
يعد من أنجم الأفلاك
مرقبـهـا
لو أنه كان يجري في مجاريهـا
ردت مكايد أقـوام
مـكـايدهـا
ونصرت لدواهيهـم دواهـيهـا وفيها يقول جمال الدين علي ابن أبي منصور:
كادت لبون سموها
وعلـوهـا
تستوقف الفلك المحيط الـدائرا
وردت قواطنها المجرة
منهـلا
ورعت سوابقها النجوم زواهرا
ويظل صرف الدهر منها
خائفا
وجلا فيما يمسي لديها حاضرا
صفحة : 30
ويقال: في مدينة حلب
حلب إبراهيم، لأن الخليل صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه كان يسكنها. وكانت
له الغنم الكثيرة. فكان يسقي الفقراء والمساكين، والوارد والصادر من ألبانها،
فكانوا يجتمعون ويسألون: حلب إبراهيم، فسميت بذلك، وهي من أعز البلاد التي لا
نظير لها في حسن الوضع، وإتقان الترتيب، واتساع الأسواق، وانتظام بعضها ببعض.
وأسواقها مسقفة بالخشب، فأهلها دائما في ظل ممدود وقيساريتها لا تماثل حسنا
وكبرا، وهي تحيط بمسجدها وكل سماط منها محاذ لباب من أبواب المسجد. ومسجدها
الجامع من أجمل المساجد في صحنه بركة ماء، ويطيف به بلاط عظيم الاتساع. ومنبرها
بديع العمل، مرصع بالعاج والآبنوس. وبقرب جامعها مدرسة مناسبة له في حسن الوضع،
وإتقان الصنعة. تنسب لأمراء بني حمدان، وبالبلد سواها، ثلاث مدارس، وبها
مارستان. وأما خارج المدينة فهو بسيط أفيح عريض، به المزارع العظيمة، وشجرات
الأعناب منتظمة به، والبساتين على شاطئ نهرها. وهو النهر الذي يمر بحماة، ويسمى
العاصي ، وقيل: إنه سمي بذلك لأنه يخيل لناظره أن جريانه من أسفل إلى علو.
والنفس تجد في خارج مدينة حلب انشراحا وسرورا ونشاطها لا يكون في سواها، وهي من
المدن التي تصلح للخلافة. قال ابن جزي: أطنبت الشعراء في وصف محاسن حلب، وذكر
داخلها وخارجها. وفيها يقول أبو عبادة البحتري:
يا برق أسفر عن قويق
فطرتي
حلب فأعلى القصر من بطياس
عن منبت الورد
المعصفر صبغة
في كل ضاحية ومجنـى الآس
أرض إذا استوحشتكم
بتـذكـر
حشدت علي فأكثرت إينـاسـي وقال فيها الشاعر المجيد أبو بكر الصنوبري:
سقى حلب المزن مغنى
حلب
فكم وصلت طربا بالطـرب
وكم مستطاب من العيش
لـذ
بها إذ بها العيش لم يستطب
إذا نشر الزهـر
أعـلامـه
بها ومطارفـه والـعـذب
غدا وحواشـيه مـن
فـضة
تروق وأوساطه من ذهـب وقال فيها أبو العلاء المعري:
حلب لـلـوارد جـنة
عـدن
وهي للغادرين نار سـعـير
والعظيم العظيم يكبر
في عي
نيه منها قدر الصغير الصغير
فقويق في أنفس القوم
بـحـر
وحصاة منه مكـان ثـبـير وقال فيها أبو الفتيان بن جبوس:
يا صاحبي إذا
أعياكما سـقـمـي
فلقياني نسيم الريح مـن حـلـب
من البلاد التي كان
الصبا سكـنـا
فيها وكان الهوى العذري من أربي وقال فيها أبو الفتح كشاجم:
وما أمتعت جارها
بـلـدة
كما أمتعت حلب جارهـا
بها قد تجمع ما
تشتـهـي
فرزها فطوبى لمن زارها وقال فيها أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي
العنسي:
حادي العيس كم تنيح
الـمـطـايا
سق فروحي من بعدهم في سياق
حلب إنهـا مـقـر
غـرامـي
ومرامـي وقـبـلة الأشـواق
لا خلا جوشن بطياس
والـعـبـد
من كـل وابــل غـــيداق
كم بها مرتع لطـرف
وقـلـب
فيه سقي المنى بكـأس دهـاق
وتـغـنـى طـيوره
لارتـبـاح وتثنى غصـونـه لـلـعـنـاق
وعلو الشهباء حيث اسـتـدارت
أنجم الأفق حولها كالـنـطـاق وبحلب ملك الأمراء أرغون الدوادار، أكبر أمراء
الملك الناصر. وهو من الفقهاء، موصوف بالعدل، لكنه بخيل. والقضاة بحلب أربعة
للمذاهب الأربعة. فمنهم القاضي كمال الدين بن الزملكاني، شافعي المذهب، عالي
الهمة، كبير القدر، كريم النفس، حسن الأخلاق، متفنن بالعلوم. وكان الناصر قد
بعث إليه ليوليه قضاء القضاة بحضرة ملكه، فلم يقض له ذلك، وتوفي ببلبيس، وهو
متوجه إليها. ولما ولي قضاء حلب، قصدته الشعراء من دمشق وسواها. وكان فيمن قصده
شاعر الشام شهاب الدين أبو بكر محمد بن الشيخ المحدث شمس الدين أبي عبد الله
محمد بن نباتة القرشي الأموي فامتدحه الفارقي بقصيدة طويلة حافلة أولها:
أسفت لفقدك جلق
الفـيحـاء
وتباشرت لقدومك الشهبـاء
وعلى دمشق وقد رحلت
كآبة
وعلا ربى حلب سنا وسناء
صفحة : 31
قد أشرقت دار سكنت
فناءهـا
حتى غدت ولـنـورهـا لألاء
يا سائرا سقي
المكارم والعلـى
ممن يبخل عنده الـكـرمـاء
هذا كمال الدين لذ
بـجـنـابـه
تنعم فثم الفضل والنـعـمـاء
قاضي القضاة أجل من
أيامـه
تعنى بها الأيتام والـفـقـراء
قاض زكا أصلا وفرعا
فاعتلى
شرفت به الأدبـاء والأبـنـاء
من الاله على بني
حلـب بـه
لله وضع الفضل حـيث يشـاء
كشف المعمى فهمـه
وبـيانـه
فكأنمـا ذاك الـذكـاء ذكـاء
يا حاكم الحكام قدرك
سـابـق
عن أن تسرك رتـبة شـمـاء
إن المناصب دون همتك
التـي
في الفضل دون محلها الجوزاء
لك في العلوم فضائل
مشهـورة
كالصبح شق له الظلام ضـياء
ومناقب شهد العدو
بفضـلـهـا
والفضل ما شهدت به الأعـداء وهي أزيد من خمسين بيتا. وأجازه عليها بكسوة
ودراهم. وانتقد الشعراء ابتداءه بلفظ أسفت. قال ابن جزي: وليس كلامه في هذه
القصيدة بذاك وهو في المقطعات أجود منه في القصائد وإليه انتهت الرياسة في
الشعر على هذا العهد، في جميع بلاد المشرق. وهو من ذرية الخطيب أبي يحيى عبد
الرحيم بن نباته، منشىء الخطب الشهيرة، ومن بديع مقطعاته في التورية قوله:
علقتها غيداء حالية
العـلـى
تجني على عقل المحب وقلبه
بخلت بلؤلؤ ثغرها عن
لاثـم
فغدت مطوقة بما بخلت بـه ومن قضاة حلب قاضي قضاة الحنفية الإمام المدرس ناصر
الدين بن العديم، حسن الصورة والسيرة، أصيل مدينة حلب:
تراه إذا ما جئته متـهـلـلا
كأنك تعطيه الذي أنت سائله ومنهم قاضي قضاة المالكية، لا أذكره. كان من
الموثقين بمصر. وأخذ الخطة عن غير استحقاق، ومنهم قاضي قضاة الحنابلة، لا أذكر
اسمه، وهو من أهل صالحية دمشق، ونقيب الأشراق بحلب بدر الدين بن الزهراء. ومن
فقهائها شرف الدين بن العجمي، وأقاربه هم كبراء مدينة حلب. ثم سافرت منها إلى
مدينة تيزين . وهي على طريق قنسرين وضبط اسمها بتاء معلوة مكسورة وياء مد
وزاي مكسورة وياء مد ثانية ونون ، وهي حديثة اتخذها التركمان. وأسواقها
حسان، ومساجدها في نهاية من الإتقان. وقاضيها بدر الدين العسقلاني. وكانت مدينة
قنسرين قديمة كبيرة، ثم خربت، ولم يبق إلا رسومها، ثم سافرت إلى مدينة أنطاكية.
وهي مدينة عظيمة أصيلة وكان عليها سور محكم، لا نظير له في أسوار بلاد الشام.
فلما فتحها الملك الظاهر هدم سورها. وأنطاكية كثيرة العمارة، ودورها حسنة
البناء، كثيرة الأشجار والمياه. وبخارجها نهر العاصي. وبها قبر حبيب النجار رضي
الله عنه. وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر. وشيخها الصالح المعمر محمد
بن علي سنه ينيف على المائة، وهو ممتع بقوته، دخلت عليه مرة في بستان له وقد
جمع حطبا، ورفعه على كاهله ليأتي به منزله بالمدينة، ورأيت ابنه قد أناف على
الثمانين، إلا أنه محدودب الظهر، ولا يستطيع النهوض، ومن يراهما يظن الوالد
منهما ولدا، والولد والدا - ثم سافرت إلى حصن بغراس، وضبط اسمه بباء
موحدة مضمومة وغين معجمة مسكنة وراء وآخره سين مهمل ، وهو حصن منيع لا
يرام، عليه البساتين والمزارع، ومنه يدخل إلى بلاد سيس، وهي من بلاد كفار
الأرمن، وهم رعية للملك الناصر، يؤدون إليه مالا ودراهم فضة خالصة تعرف
بالبغلية. وبها تصنع الثياب الدبيلية . وأمير هذا الحصن صارم الدين بن
الشيباني. وله ولد فاضل اسمه علاء الدين، وابن أخ له اسمه حسام الدين، فاضل
كريم يسكن الموضع المعروف بالرصص بضم الراء والصاد المهمل الأول ،
ويحفظ الطريق إلى بلاد الأرمن.
حكاية
صفحة : 32
شكا الأرمن مرة إلى
الملك الناصر من الأمير حسام الدين، وزوروا عليه أمورا لا تليق. فأنفذ أمره
لأمير بحلب أن يخنقه. فلما توجه الأمير بلغ ذلك صديقا له من كبار ألأمراء فدخل
على الملك الناصر وقال: يا خوند إن الأمير حسام الدين هو من خيار الأمراء، ينصح
للمسلمين، ويحفظ الطريق، وهو من الشجعان، والأرمن يريدون الفساد في بلاد
المسلمين، فيمنعهم ويقهرهم. وإنما أرادوا إضعاف شوكة المسلمين بقتله. ولم يزل
به حتى أنفذ أمرا ثانيا بسراحه والخلع عليه ورده لموضعه. ودعا الملك الناصر
بريديا يعرف بالأفوش، وكان لا يبعث إلا في مهم، أمره بالإسراع والجد في السير.
فسار من مصر إلى حلب في خمس. وهي مسيرة شهر. فوجد أمير حلب قد أحضر حسام الدين
وأخرجه إلى الموضع الذي يخنق به الناس، فخلصه الله تعالى، وعاد إلى موضعه.
ولقيت هذا الأمير ومعه قاضي بغراس شرف الدين الحموي، بموضع يقال له: العمق،
متوسط بين أنطاكية وتيزين وبغراس، ينزله التركمان بمواشيهم، لخصبه وسعته. ثم
سافرت إلى حصن القصير: تصغير قصر، وهو حصن حسن، أميره علاء الدين الكردي،
وقاضيه شهاب الدين الأرمنتي من أهل الديار المصرية، ثم سافرت إلى حصن الشغربكاس،
وضبط اسمه بضم الشين المعجم وإسكان الغين المعجم وضم الراء والباء الموحدة
وآخره سين مهملة ، وهو منيع في رأس شاهق، أميره سيف الدين الطنطاش فاضل،
وقاضيه جمال الدين بن شجرة، من أصحاب ابن تيمية. ثم سافرت إلى مدينة صهيون، وهي
مدينة حسنة بها الأنهار المطردة، والأشجار المورقة، ولها قلعة جيدة، وأميرها
يعرف بالإبراهيمي، وقاضيها محيي الدين الحمصي، وبخارجها زاوية في وسط بستان
فيها الطعام للوارد والصادر وهي على قبر الصالح العابد عيسى البدوي رحمه الله،
وقد زرت قبره. ثم سافرت منها، فمررت بحصن القدموس، وضبط اسمه بفتح القاف
وإسكان الدال المهمل وضم الميم وآخره سين مهمل ، ثم بحصن المينقة،
وضبط اسمه بفتح الميم وإسكان الياء وفتح النون والقاف ، ثم بحصن العليقة،
واسمه على لفظ واحدة العليق، ثم بحصن مصياف وصاده مهملة ، ثم بحصن
الكهف. وهذه الحصون لطائفة يقال لهم: الإسماعيلية، ويقال لهم الفداوية. ولا
يدخل عليهم أحد من غيرهم. وهم سهام الملك الناصر، بهم يصيب من يعدو عنه من
أعدائه بالعراق وغيرها، ولهم المرتبات. وإذا أراد السلطان أن يبعث أحدهم إلى
اغتيال عدو له أعطاه ديته، فإن سلم بعد تأتي ما يراد منه فهي له، وإن أصيب فهي
لولده. ولهم سكاكين مسمومة يضربون بها من بعثوا إلى قتله. وربما لم تصح حيلهم
فقتلوا. كما جرى لهم مع الأمير قراسنقور. فإنه لما هرب إلى العراق بعث إليه
الملك الناصر جملة منهم فقتلوا ولم يقدروا عليه لأخذه بالحزم.
حكاية
صفحة : 33
كان قراسنقور من
كبار الأمراء، وممن حضر قتل الملك الأشرف أخي الملك الناصر، وشارك فيه. ولما
تمهد الملك للملك الناصر، وقربه القرار، واشتدت أواخي سلطانه، جعل يتتبع قتلة
أخيه، فيقتلهم واحدا واحدا، إظهارا للأخذ بثأر أخيه، وخوفا أن يتجاسروا عليه
بما تجاسروا على أخيه. وكان قراسنقور أمير الأمراء بحلب. فكتب الملك الناصر إلى
جميع الأمراء أن ينفروا بعساكرهم. وجعل لهم ميعادا يكون فيه اجتماعهم بحلب،
ونزولهم عليها، حتى يقبضوا عليه. فلما فعلوا ذلك، خاف قراسنقور على نفسه، وكان
له ثمانمائة مملوك، فركب فيهم، وخرج على العساكر صباحا، فاخترقهم وأعجزهم سبقا.
وكانوا في عشرين ألفا، وقصد منزل أمير العرب مهنا بن عيسى، وهو على مسيرة يومين
من حلب. وكان مهنا في قنص له، فقصد بيته، ونزل عن فرسه، وألقى العمامة في عنق
نفسه، ونادى الجوار يا أمير العرب، وكانت هنالك أم الفضل زوج مهنا وبنت عمه
فقالت له: قد أجرناك وأجرنا من معك. فقال: إنما أطلب أولادي ومالي. فقالت له:
لك ما تحب، فانزل في جوارنا. ففعل ذلك. وأتى مهنا، فأحسن نزله وحكمه في ماله.
فقال: إنما أحب أهلي ومالي الذي تركته بحلب. فدعا مهنا بإخوته وبني عمه،
فشاورهم في أمره. فمنهم من أجابه إلى ما أراد، ومنهم من قال: كيف نحارب الملك
الناصر، ونحن في بلاده بالشام ? فقال لهم مهنا: أما أنا فأفعل لهذا الرجل ما
يريده، وأذهب معه إلى سلطان العراق. وفي أثناء ذلك ورد عليهم خبر بأن أولاد
قراسنقور سيروا على البريد إلى مصر. فقال مهنا لقراسنقور: أما أولادك فلا حيلة
فيهم، وأما مالك فنجتهد في خلاصه. فركب فيمن أطاعه من أهله، واستنفر من العرب
نحو خمسة وعشرين ألفا، وقصدوا حلبا، فأحرقوا باب قلعتها، وتغلبوا عليها،
واستخلصوا منها مال قراسنقور ومن بقي من أهله، ولم يتعدوا إلى سوى ذلك. وقصدوا
ملك العراق، وصحبهم أمير حمص الأفرم. ووصلوا إلى الملك محمد خدابنده سلطان
العراق، وهو بموضع مصيفه المسمى قراباغ بفتح القاف والراء والباء الموحدة
والغين المعجمة ، وهو ما بين السلطانية وتبريز، فأكرم نزلهم، وأعطى مهنا
عراق العراق، وأعطى قراسنقور مدينة مراغة من عراق العجم، وتسمى دمشق الصغيرة،
وأعطى الأفرم همدان. وأقاموا عنده مدة مات فيها الأفرم. وعاد مهنا إلى الملك
الناصر بعد مواثيق وعهود، أخذها منه. وبقي قراسنقور على حاله. وكان الملك
الناصر يبعث له الفداوية مرة بعد مرة، فمنهم من يدخل عليه داره فيقتل دونه،
ومنهم من يرمي بنفسه عليه وهو راكب فيضربه. وقتل بسببه من الفداوية جماعة وكان
لا يفارق الدرع أبدا، ولا ينام إلا في بيت العود والحديد. فلما مات السلطان
محمد وولى ابنه أبو سعيد وقع ما سنذكره من أمر الجوبان، كبير أمرائه، وفرار
ولده الدمرطاش إلى الملك الناصر. ووقعت المراسلة بين الملك الناصر وبين أبي
سعيد، واتفقا على أن يبعث أبو سعيد إلى الملك الناصر برأس قرا سنقور، ويبعث
إليه الملك الناصر برأس الدمرطاش. فبعث الملك الناصر براس الدمرطاش إلى أبي
سعيد، فلما وصله أمر بحمل قراسنقور إليه، فلما عرف قراسنقور بذلك أخذ خاتما كان
له مجوفا، في داخله سم ناقع، فنزع فصه، وامتص ذلك السم فمات لحينه، فعرف أبو
سعيد بذلك الملك الناصر، ولم يبعث له برأسه. ثم سافرت من حصون الفداوية إلى
مدينة جبلة، وهي ذات أنهار مطردة وأشجار، البحر على نحو ميل منها. وبها قبر
الولي الصالح الشهير إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه، وهو الذي نبذ الملك، وانقطع
إلى الله تعالى، حسبما شهر ذلك. ولم يكن إبراهيم من بيت ملك كما يظنه الناس
إنما ورث الملك عن جده أبي أمه. وأما أبوه أدهم فكان من الفقراء الصالحين
السائحين المتعبدين الورعين المنقطعين.
حكاية أدهم
صفحة : 34
يذكر أنه مر ذات يوم
ببساتين مدينة بخارى، وتوضأ من بعض الأنهار التي تتخللها، فإذا بتفاحة يحملها
ماء النهر. فقال: هذه لا خطر لها. فأكلها، ثم وقع في خاطره من ذلك وسواس، فعزم
على أن يستحل من صاحب البستان، فقرع باب البستان فخرجت إليه جارية. فقال: أدعي
لي صاحب المنزل فقالت إنه لامرأة. فقال: استأذني لي عليها، ففعلت فأخبر المرأة
بخبر التفاحة. فقالت له: إن هذا البستان نصفه لي، ونصفه للسلطان، والسلطان
يومئذ ببلخ، وهي على مسيرة عشرة من بخارى وأحلته المرأة من نصفها، وذهب إلى بلخ
فاعترض السلطان في موكبه فأخبره الخبر، واستحله. فأمره أن يعود إليه من الغد.
وكان للسلطان بنت بارعة الجمال، قد خطبها أبناء الملوك فتمنعت وحببت إليها
العبادة وحب الصالحين. وهي تحب أن تتزوج من ورع زاهد في الدنيا. فلما عاد
السلطان إلى منزله أخبر ابنته بخبر أدهم، وقال: ما رأيت أورع من هذا، يأتي من
بخارى إلى بلخ لأجل نصف تفاحة. فرغبت في تزوجه. فلما أتاه من الغد، قال: لا
أحلك إلا أن تتزوج ببنتي. فانقاد لذلك بعد استعصاء، وتمنع، فتزوج منها، فلما
دخل عليها وجدها متزينة، والبيت مزين بالفرش وسواها. فعمد إلى ناحية من البيت،
وأقبل على صلاته حتى أصبح، ولم يزل كذلك سبع ليال. وكان السلطان ما أحله قبل
فبعث إليه أن يحله فقال لا أحلك حتى يقع اجتماعك بزوجتك. فلما كان الليل
واقعها، ثم اغتسل، وقام إلى الصلاة فصاح صيحة وسجد في مصلاه فوجد ميتا رحمه
الله، وحملت منه، فولدت إبراهيم. ولم يكن لجده ولد فأسند الملك إليه. وكان من
تخليه عن الملك ما اشتهر. وعلى قبر إبراهيم بن أدهم زاوية حسنة فيها بركة ماء،
وبها الطعام للصادر والوارد وخادمها إبراهيم الجمحي من كبار الصالحين والناس
يقصدون هذه الزاوية ليلة النصف من شعبان من سائر أقطار الشام، ويقيمون بها
ثلاثا. ويقوم بها خارج المدينة سوق عظيم، فيه من كل شيء ويقدم الفقراء
المتجردون من الآفاق لحضور هذا الموسم، وكل من يأتي من الزوار لهذه التربة يعطي
لخادمها شمعة، فيجتمع من ذلك قناطير كثيرة. وأكثر أهل هذه السواحل هم الطائفة
النصيرية الذين يعتقدون أن علي بن أبي طالب إله، وهم لا يصلون ولا يتطهرون ولا
يصومون. وكان الملك الظاهر ألزمهم بناء المساجد بقراهم، فبنوا بكل قرية مسجدا
بعيدا عن العمارة ولا يدخلونه ولا يعمرونه. وربما أوت إليه مواشيهم ودوابهم
وربما وصل الغريب إليهم فينزل بالمسجد ويؤذن إلى الصلاة فيقولون لا تنهق علفك
يأتيك وعددهم كثير.
حكاية
صفحة : 35
ذكر لي أن رجلا
مجهولا وقع ببلاد هذه الطائفة، فادعى الهداية، وتكاثروا عليه فوعدهم بتملك
البلاد، وقسم بينهم بلاد الشام، وكان يعين لهم البلاد، يأمرهم بالخروج إليها،
ويعطيهم من ورق الزيتون، ويقول لهم: استظهروا بها، فإنها كالأوامر لكم فإذا خرج
أحدهم إلى بلد أحضره أميرها فيقول له: إن الإمام المهدي أعطاني هذا البلد،
فيقول له: أين الأمر فيخرج ورق الزيتون. فيضرب ويحبس. ثم إنه أمرهم بالتجهيز
لقتال المسلمين وأن يبدأوا بمدينة جبلة وأمرهم أن يأخذوا عوض السيوف قضبان الآس،
ووعدهم أنها تصير في أيديهم سيوفا عند القتال فغدروا مدينة جبلة، وأهلها في
صلاة الجمعة، فدخلوا الدور، وهتكوا الحريم. وثار المسلمون من مسجدهم، فأخذوا
السلاح وقتلوهم كيف شاءوا واتصل الخبر باللاذقية، فأقبل أميرها بهادر عبد الله
بعساكره، وطيرت الحمام إلى طرابلس، فأتى أمير الأمراء بعساكره واتبعوهم حتى
قتلوا منهم نحو عشرين الفا، وتحصن الباقون بالجبال. وراسلوا ملك الأمراء
والتزموا أن يعطوه دينارا عن كل رأس، إن هو حاول إبقاءهم.وكان الخبر قد طير به
الحمام إلى الملك الناصر. وصدر جوابه أن يحمل عليهم السيف. فراجعه ملك الأمراء،
وألقى له أنهم عمال المسلمين في حراثة الأرض، وإنهم إن قتلوا ضعف المسلمون
لذلك، فأمر بالإبقاء عليهم. ثم سافرت إلى مدينة اللاذقية وهي مدينة عتيقة على
ساحل البحر. يزعمون أنها مدينة الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا. وكنت إنما
قصدتها لزيارة الولي الصالح عبد المحسن الإسكندري - فلما وصلتها وجدته غائبا
بالحجاز الشريف. فلقيت من أصحابه الشيخين الصالحين سعيد البجائي ويحيى السلاوي،
وهما بمسجد علاء الدين بن البهاء، أحد فضلاء الشام وكبرائها، صاحب الصدقات
والمكارم، وكان قد عمر لهما زاوية بقرب المسجد وجعل بها الطعام للوارد والصادر.
وقاضيها الفقيه الفاضل جلال الدين عبد الحق المصري المالكي فاضل كريم تعلق
بطيلان ملك الأمراء فولاه قضاءها.
حكاية
صفحة : 36
كان باللاذقية رجل
يعرف بابن المؤيد هجاء لا يسلم أحد من لسانه، متهم في دينه، مستخف يتكلم
بالقبائح من الإلحاد. فعرضت له حاجة عند طيلان ملك الأمراء، فلم يقضها له. فقصد
مصر، وتقول أمورا شنيعة، وعاد إلى اللاذقية. فكتب طيلان إلى القاضي جلال الدين
أن يتحيل في قتله بوجه شرعي، فدعاه القاضي إلى منزله وباحثه واستخرج كامن إلحده،
فتكلم بعظائم أيسرها يوجب القتل، وقد أعد القاضي الشهود خلف الحجاب ليكتبوا
عقدا بمقاله، وثبت عند القاضي وسجن، وأعلم ملك ألأمراء بقضيته، ثم أخرج من
السجن، وخنق على بابه، ثم لم يلبث ملك الأمراء طيلان أن عزل عن طرابلس، ووليها
الحاج قرطية من كبار الأمراء، وممن تقدمت له فيها الولاية، وبينه وبين طيلان
عداوة، فجعل يتبع سقطاته، وقام لديه إخوة ابن المؤيد شاكين القاضي جلال الدين،
فأمر به وبالشهود الذين شهدوا على ابن المؤيد فأحضروا وأمر بخنقهم، وأخرجوا إلى
ظاهر المدينة حيث يخنق الناس، وأجلس كل واحد تحت مخنقته، ونزعت عمائمهم. ومن
عدة أمراء تلك البلاد أنه متى أمر أحدهم بقتل أحد من الناس يمر الحاكم من مجلس
الأمير سبقا على فرسه إلى حيث المأمور بقتله، ثم يعود إلى الأمير فيكرر
استئذانه يفعل ذلك ثلاثا، فإذا كان بعد الثلاث أنفذ الأمر، فلما فعل الحاكم ذلك
قامت الأمراء في المرة الثالثة وكشفوا رؤوسهم وقالوا: أيها الأمير هذه سبة في
الإسلام يقتل القاضي والشهود. فقبل الأمير شفاعتهم وخلى سبيلهم. وبخارج
اللاذقية الدير المعروف بدير الفاروص، وهو أعظم دير بالشام ومصر يسكنه الرهبان،
ويقصده النصارى من الآفاق، وكل من نزل به من المسلمين. فالنصارى يضيفونه.
وطعامهم الخبز والجبن والزيتون والخل البكر. وميناء هذه المدينة عليها سلسلة
بين برجين لا يدخلها أحد، ولا يخرج منها حتى تحط له السلسلة. وهي من أحسن
المراسي بالشام. ثم سافرت إلى حصن المرقب، وهو من الحصون العظيمة يماثل حصن
الكرك. ومبناه على جبل شامخ، وخارجه ربض ينزله الغرباء، ولا يدخلون قلعته.
وافتتحه من أيدي الروم الملك المنصور قلاوون، وعليه ولد ابنه الملك الناصر.
وكان قاضيه برهان الدين المصري من أفاضل القضاة وكرمائهم، ثم سافرت إلى الجبل
الأقرع وهو أعلى جبل بالشام وأول ما يظهر منها من البحر، وسكانه التركمان. وفيه
العيون والأنهار. وسافرت منه إلى جبل لبنان، وهو من أخصب جبال الدنيا، فيه
أصناف الفواكه وعيون الماء والظلال الوافرة، ولا يخلوا من المنقطعين إلى الله
تعالى والزهاد والصالحين، وهو شهير بذلك. ورأيت به جماعة من الصالحين قد
انقطعوا إلى الله تعالى مما لم يشتهر اسمه.
حكاية
صفحة : 37
أخبرني بعض الصالحين
الذين لقيتهم به قال: كنا بهذا الجبل مع جماعة من الفقراء أيام البرد الشديد،
فأوقدنا نارا عظيمة، وأحدقنا بها. فقال بعض الحاضرين: يصلح لهذه النار ما يشوى
فيها. فقال أحد الفقراء ممن تزدريه الأعين ولا يعبأ به: إني كنت عند صلاة العصر
بمتعبد إبراهيم بن أدهم، فرأيت بمقربة منه حمار وحش قد أحدق الثلج به من كل
جانب، وأظنه لا يقدر على الحراك، فلو ذهبتم إليه لقدرتم عليه وشويتم لحمه في
هذه النار. قال: فقمنا إليه في خمسة رجال، فلقيناه كما وصف إلينا، فقبضناه
وأتينا به أصحابنا، وذبحناه وشوينا لحمه في تلك النار، وطلبنا الفقير الذي نبه
عليه فلم نجده، ولا وقعنا له على أثر، فطال عجبنا منه. ثم وصلنا من جبل لبنان
إلى مدينة بعلبك. وهي حسنة قديمة من أطيب مدن الشام، تحدق بها البساتين الشريفة
والجنات المنيفة، وتخترق أرضها الأنهار الجارية، وتضاهي دمشق في خيراتها
المتناهية. وبها من حب الملوك ما ليس في سواها. وبها يصنع الدبس المنسوب إليها
وهو منوع من الرب يصنعونه من العنب ولهم تربة يضعونها فيه فيجمد وتكسر القلة
التي يكون بها، فيبقى قطعة واحدة، وتصنع منه الحلواء، ويجعل فيها الفستق واللوز
ويسمونها حلواء بالملبن، ويسمونها أيضا بجلد الفرس. وهي كثيرة الألبان، وتجلب
منها إلى دمشق، وبينهما مسيرة يوم للمجد وأما الرفاق فيخرجون من بعلبك فيبيتون
ببلدة صغيرة تعرف بالزبداني، كثيرة الفواكه ويغدون منها إلى دمشق، ويصنع ببعلبك
الثياب المنسوبة إليها من الأحرام وغيره، ويصنع بها أواني الخشب، وملاعقه التي
لا نظير لها في البلاد، وهم يسمون الصحاف بالدسوت. وربما صنعوا الصحفة وصنعوا
صحفة أخرى تسع في جوفها، وأخرى في جوفها، إلى أن يبلغوا العشرة، يخيل لرائيها
أنها صحفة واحدة، وكذلك الملاعق يصنعون منهات عشرة، واحدة في جوف واحدة،
ويصنعون لها غشاء من جلد، ويمسكها الرجل في حزامه، وإذا حضر طعاما مع أصحابه
أخرج ذلك، فيظن رائيه أنها ملعقة واحدة، ثم يخرج من جوفها تسعة، وكان دخولي
لبعلبك عشية النهار. وخرجت منها بالغد، ولفرط اشتياقي إلى دمشق وصلت يوم الخميس
التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين إلى مدينة دمشق الشام، فنزلت منها
بمدرسة المالكية المعروفة بالشرابشية، ودمشق هي التي تفضل جميع البلاد حسنا
وتتقدمها جمالا، وكل وصف، وإن طال، فهو قاصر عن محاسنها. ولا أبدع مما قاله أبو
الحسين ابن جبير رحمه الله تعالى في ذكرها قال: وأما دمشق فهي جنة المشرق،
ومطلع نورها المشرق، وخاتمة بلاد الإسلام متى استقريناها ، وعروس المدن التي
اجتلبناها. قد تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسية من البساتين، وحلت
موضع الحسن بالمكان المكين، وتزينت في منصتها أجمل تزيين، وتشرفت بأن أوى
المسيح عليه السلام وأمه منها إلى ربوة منها ذات قرار ومعين وظل ظليل، وماء
سلسبيل: تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يحيي النفوس نسيمها
العليل، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم هلموا إلى معرس للحسن ومقيل، وقد
سئمت أرضها كثرة الماء، حتى اشتاقت إلى الظماء. فتكاد تناديك بها الصم والصلاب:
اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب. وقد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر
والآكام بالثمر، وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر، وكل موضع لحظت
بجهاتها الأربع نضرته اليانعة قيد البصر ولله صدق القائلين عنها: إن كانت الجنة
في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي تساميها وتحاذيها. قال ابن
جزي: وقد نظم بعض شعرائها في هذا المعنى فقال:
إن تكن جنة الخلود
بـأرض
فدمشق ولا تكون سـواهـا
أو تكن في السماء
فهي عليها
قد أبدت هواءها وهـواهـا
بلـد طـيب ورب
غـفـور
فاغتنمها عشية وضحـاهـا
صفحة : 38
وذكر شيخنا المحدث
الرحال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر بن حسان القيسي الوادي آشي، نزيل
تونس: نص كلام ابن جبير، ثم قال: ولقد أحسن فيما وصف منها وأجاد. وتتوق الأنفس
للتطلع على صورتها بما أفاد. هذا وإن لم تكن له بها إقامة. فيعرب عنها بحقيقة
وعلامة. ولا وصف ذهبيات أصيلها. وقد حان من الشمس غروبها ولا أزمان جفولها
المنوعات. ولا أوقات شرورها المنبهات، وقد اختص من قال: ألفيتها كما تصف
الألسن. وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. قال ابن جزي: والذي قالته الشعراء
في وصف محاسن دمشق لا يحصر كثرة. وكان والدي رحمه الله كثيرا ما ينشد في وصفها
هذه الأبيات. وهي لشرف الدين بن محسن رحمه الله تعالى:
دمشق بنا شوق إليها
مـبـرح
وإن لج واش أو ألـح عـذول
بلاد بها الحصباء در
وتربـهـا
عبير وأنفاس الشمال شمـول
تسلسل فيها ماؤها
وهو مطلق
وصح نسيم الروض وهو عليل وهذا من النمط العالي من الشعر. وقال فيها عرقلة
الدمشقي الكلبي:
الشام شامة وجنة
الدنيا كمـا
إنسان مقلتها الغضيضة جلق
من آسها لك جنة لا
تنقضـي
ومن الشقيق جهنم لا تحرق وقال أيضا فيها:
أما دمشق فجنات
مـعـجـلة
للطالبين بها الولدان والحـور
ما صاح فيها على
أوتاره قمر
إلا يغنيه قمري وشـحـرور
يا حبذا ودروع الماء
تنسجهـا
أنامل الريح إلا أنـهـا زور وله فيها أشعار كثيرة سوى ذلك. وقال فيها أبو الوحش
سبع بن خلف الأسدي:
سقى دمشق الله غيثا
محسـنـا
من مستهل ديمة دهـاقـهـا
مدينة ليس يضاهى حسنـهـا
في سائر الدنيا ولا آفاقـهـا
تود زوراء الـعـراق
أنـهـا
منها ولا تعزى إلى عراقهـا
فأرضها مثل السماء
بـهـجة
وزهرها كالزهر في إشراقها
نسيم روضها متى ما
قد سرى
فك أخا الهموم من وثاقـهـا
قد رتع الربيع في
ربوعـهـا
وسيقت الدنيا إلى أسواقـهـا
لا تسأم العيون
والأنوف مـن
رؤيتها يوما ولا استنشاقـهـا ومما يناسب هذا للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني
فيها من قصيدته، وقد نسبت أيضا لابن المنير:
يا برق هل لك في
احتمال تحـية
عذبت فصارت مثل مائك سلسلا
باكر دمشق بـمـشـق
الـحـيا
زهر الرياض مرصعا ومكلـلا
واجرر بجيرون ذيولك
واختصص
مغنى تأزر بالعلا وتـسـربـلا
حيث الحيا الربعي
محلول الحـيا
والوابل الربعي مفري الـكـلا وقال فيها أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العنسي
الغرناطي المدعو نور الدين:
دمشق منزلنا حيث
النـعـيم بـدا
مكملا وهو في الآفاق مختصر
القصب راقصة والطير
صادحة
والزهر مرتفع والماء منحـدر
وقد تجلت من اللذات
أوجهـهـا
لكنها بظلال الدوح تسـتـتـر
وكل واد به مـوسـى
يفـجـره
وكل روض على حافاته الخضر وقال أيضا فيها:
خيم بجلق بين الـكـاس
والـوتـر
في جنة هي ملء السمع والبصـر
ومتع الطرف في مرأى
محاسـنـه
وروض الفكر بين الروض والنهر
وانظر إلى ذهبيات
الأصـيل بـهـا
واسمع إلى نغمات الطير في الشجر
وقل لمن لام فـي
لـذاتـه بـشـرا
دعني فإنك عندي سوقة الـبـشـر وقال أيضا فيها:
أمـا دمـشـق فـجـنة
ينسى بها الوطن الغريب
للـه أيام
الـسـبــوت
بها ومنظرها العجـيب
أنظر بعينك هـل تـرى
إلا محبـا أو حـبـيب
في موطن غنى الحمـام
به على رقص القضيب
وغدت أزاهر روضـه
تختال في فرح وطـيب
صفحة : 39
وأهل دمشق لا يعملون
يوم السبت عملا، إنما يخرجون إلى المتنزهات وشطوط الأنهار ودوحات الأشجار، بين
البساتين النضرة والمياه الجارية فيكونون بها يومهم إلى الليل، وقد طال بنا
الكلام في محاسن دمشق فلنرجع إلى كلام الشيخ أبي عبد الله.
ذكر
جامع دمشق المعروف بجامع بني امية
وهو أعظم مساجد الدنيا
احتفالا، وأتقنها صناعة، وأبدعها حسنا وبهجة وكمالا، ولا يعلم له نظير، ولا
يوجد له شبيه، وكان الذي تولى بناءه وإتقانه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك
بن مروان. ووجه إلى ملك الروم بقسطنطينية يأمره أن يبعث إليه الصناع، فبعث إليه
اثني عشر ألف صانع. وكان موضع المسجد كنيسة. فلما افتتح المسلمون دمشق دخل خالد
بن الوليد رضي الله عنه من إحدى جهاتها بالسيف، فانتهى إلى نصف الكنيسة. ودخل
أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من الجهة الغربية صلحا، فانتهى إلى نصف
الكنيسة. فصنع المسلمون من نصف الكنيسة الذي دخلوه عنوة مسجدا، وبقي النصف الذي
صالحوا عليه كنيسة. فلما عزم الوليد على زيادة الكنيسة في المسجد طلب من الروم
أن يبيعوا له كنيستهم تلك بما شاءوا من عوض، فأبوا عليه. فانتزعها من أيديهم.
وكانوا يزعمون أن الذي يهدمها يجن، فذكروا ذلك للوليد فقال: أنا اول من يجن في
سبيل الله، وأخذ الفأس وجعل يهدم بنفسه. فلما رأس المسلمون ذلك تتابعوا على
الهدم. وأكذب الله زعم الروم. وزين هذا المسجد بفصوص الذهب المعروفة
بالفسيفساء، تخالطها أنواع الأصبغة الغريبة الحسن، وذرع المسجد في الطول من
الشرق إلى الغرب مائتا خطوة، وهي ثلاثمائة ذراع، وعرضه من القبلة إلى الجوف
مائة وخمس وثلاثون خطوة، وهي مائتا ذراع، وعدد شمسات الزجاج الملون الذي فيه
أربع وسبعون. وبلاطاته الثلاثة مستطيلة من شرق إلى غرب، سعة كل بلاط منها ثماني
عشرة خطوة. وقد قامت على أربع وخمسين سارية، وثماني أرجل حصية، تتخللها، وست
أرجل مرخمة مرصعة بالرخام الملون، قد صور فيها أشكال محاريب وسواها. وهي ثقل
قبة الرصاص التي امام المحراب المسماة بقبة النسر كأنهم شبهوا المسجد نسرا
طائرا، والقبة رأسه، وهي من أعجب مباني الدنيا.
ومن أي جهة استقبلت
المدينة بدت لك قبة النسر ذاهبة في الهواء منيفة على جميع مباني البلد، وتستدير
بالصحن بلاطات ثلاثة من جهاته الشرقية والغربية والجوفية، سعة كل بلاط منها عشر
خطى. وبها من السواري ثلاث وثلاثون، ومن الأرجل أربع عشرة وسعة الصحن مائة ذراع،
وهو من أجمل المناظر وأتمها حسنا، وبها يجتمع أهل المدينة بالعشايا، فمن قارئ
ومحدث وذاهب. ويكون انصرافهم بعد العشاء الأخيرة وإذا لقي أحد كبرائهم من
الفقهاء وسواهم صاحبا له أسرع كل منهما نحو صاحبه وقبل رأسه. وفي هذا الصحن
ثلاث من القباب إحداها في غربيه، وهي أكبرها وتسمى قبة عائشة أم المؤمنين. وهي
قائمة على ثماني سوار من الرخام مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة مسقفة
بالرصاص.
ويقال: إن مال الجامع كان
يختزن بها. وذكر لي أن فوائد مستغلات الجامع وجبايته نحو خمسة وعشرين ألف دينار
ذهبا في كل سنة. والقبة الثانية من شرقي الصحن على هيئة الأخرى، إلا أنها أصغر
منها قائمة على ثمان من سواري الرخام، وتسمى قبة زين العابدين. والقبة الثالثة
في وسط الصحن، وهي صغيرة مثمنة من رخام عجيب محكم الإلصاق، قائمة على أربع سوار
من الرخام الناصع وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاس، يمج الماء إلى علو،
فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب لجين. وهم يسمونهم قفص الماء. ويستحسن الناس وضع
أفواههم فيه للشرب. وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي إلى مسجد بديع الوضع
يسمى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويقابله من الجهة الغربية حيث يلتقي
البلاطان الغربي والجوفي موضع يقال: إن عائشة رضي الله عنها سمعت الحديث هنالك.
صفحة : 40
وفي قبلة المسجد
المقصورة العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية وفي الركن الشرقي منها إزاء
المحراب خزانة كبيرة فيه المصحف الكريم الذي وجهه أمير المؤمنين عثمان بن عفان
رضي الله عنه إلى الشام. وتفتح تلك الخزانة كل يوم جمعة بعد الصلاة فيزدحم
الناس على لثم ذلك المصحف الكريم. وهنالك يحلف الناس غرماءهم ومن ادعوا عليه
شيئا. وعن يسار المقصورة محراب الصحابة. ويذكر أهل التاريخ أنه أول محراب وضع
في الإسلام - وفيه يؤم إمام المالكية - وعن يمين المقصورة محراب الحنفية وفيه
يؤم إمامهم، ويليه محراب الحنابلة وفيه يؤم إمامهم. ولهذا المسجد ثلاث صوامع
إحداها بشرقيه، وهي من بناء الروم. وبابها داخل المسجد، وبأسفلها مطهرة وبيوت
للوضوء يغتسل فيها المعتكفون والملتزمون للمسجد ويتوضأون.
والصومعة الثانية بغربيه
وهي أيضا من بناء الروم.
صفحة : 41
والصومعة الثالثة
بشماله، وهي من بناء المسلمين. وعدد المؤذنين به سبعون مؤذنا. وفي شرقي المسجد
صومعة كبيرة فيها صهريج ماء وهي لطائفة الزيالعة السودان. وفي وسط المسجد قبر
زكريا عليه السلام، وعليه تابوت معترض بين أسطوانتين مكسو بثوب حرير أسود معلم
فيه مكتوب بالأبيض: يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى وهذا
المسجد شهير الفضل. وقرأت في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد
دمشق بثلاثين ألف صلاة. وفي الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
يعبد الله فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة . ويقال: إن الجدار القبلي منه
وضعه نبي الله هود عليه السلام، وأن قبره به. وقد رأيت على مقربة من مدينة ظفار
اليمن بموضع يقال له: الأحقاف بنية فيها قبر مكتوب عليه هذا قبر هود بن عابر
صلى الله عليه وسلم. ومن فضائل هذا المسجد أنه لا يخلو عن قراءة القرآن والصلاة
إلا قليلا من الزمان، كما سنذكره. والناس يجتمعون به كل يوم إثر صلاة الصبح
فيقرأون سبعا من القرآن ويجتمعون بعد صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية، يقرأون
فيها من سورة الكوثر إلى آخر القرآن. وللمجتمعين على هذه القراءة مرتبات تجري
لهم وهم نحو ستمائة إنسان. ويدور عليهم كاتب الغيبة، فمن غاب منهم قطع له عند
دفع المرتب بقدر غيبته. وفي هذا المسجد جماعة كبيرة من المجاورين لا يخرجون منه
مقبلون على الصلاة والقراءة والذكر، لا يفترون عن ذلك. ويتوضأون من المطاهر
التي بداخل الصومعة الشرقية التي ذكرناها. وأهل البلد يعينونهم بالمطاعم
والملابس من غير أت يسألوهم شيئا من ذلك، وفي هذا المسجد أربعة أبواب: باب قبلي
يعرف بباب الزيادة، وبأعلاه قطعة من الرمح الذي كانت فيه راية خالد بن الوليد
رضي الله عنه، ولهذا الباب دهليز كبير متسع فيه حوانيت السقاطين وغيرهم، ومنه
يذهب إلى دار الخيل. وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين، وهي سوق عظيمة تمتد مع
جدار المسجد القبلي، من أحسن أسواق دمشق. وبموضع هذه السوق كانت دار معاوية بن
أبي سفيان رضي الله عنه ودور قومه، وكانت تسمى الخضراء. فهدمها بنو العباس رضي
الله عنهم وصار مكانها سوقا. وباب شرقي وهو أعظم أبواب المسجد، ويسمى بباب
جيرون. وله دهليز عظيم يخرج منه إلى بلاط عظيم طويل أمامه خمسة أبواب لها ستة
أعمدة طوال. وفي جهة اليسار منه مشهد عظيم كان فيه رأس الحسين رضي الله عنه.
وبإزائه مسجد صغير ينسب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وبه ماء جار. وقد
انتظمت أمام البلاط درج ينحدر فيها إلى الدهليز، وهو كالخندق العظيم يتصل بباب
عظيم الارتفاع تحته أعمدة كالجذوع طوال وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت
عليها شوارع مستديرة فيها دكاكين البزازين وغيرهم. وعليها شوارع مستطيلة فيها
حوانيت الجوهريين والكتبيين وصناع أواني الزجاج العجيبة. وفي الرحبة المتصلة
بالباب الأول دكاكين لكبار الشهود، منها دكان للشافعية، وسائرها لأصحاب
المذاهب. يكون في الدكان منها الخمسة والستة من العدول، والعاقد للأنكحة من قبل
القاضي، وسائر الشهود مفترقون في المدينة. وبمقربة من هذه الدكاكين سوق
الوراقين الذين يبيعون الكاغد والأقلام والمداد. وفي الدهليز المذكور حوض من
الرخام الكبير مستدير عليه قبة لا سقف لها، تقلها أعمدة رخام وفي وسط الحوض
أنبوب نحاس يمج الماء بقوة فيرتفع في الهواء أزيد من قامة الإنسان يسمونه
الفوارة، منظره عجيب. وعن يمين الخارج من باب جيرون وهو باب الساعات، غرفة لها
هيئة طاق كبير فيه طيقان صغار مفتحة لها أبواب على عدد ساعات النهار. والأبواب
مصبوغ باطنها بالخضرة وظاهرها بالصفرة، فإذا ذهبت ساعة من النهار انقلب الباطن
الأخضر ظاهرا والظاهر الأصفر باطنا. ويقال: إن بداخل الغرفة من يتولى قلبها
بيده عند مضي الساعات. والباب الغربي يعرف بباب البريد، وعن يمين الخارج منه
مدرسة الشافعية. وله دهليز فيه حوانيت للشماعين، وسماط لبيع الفواكه. وبأعلاه
باب يصعد إليه في درج له أعمدة سامية في الهواء. وتحت الدرج سقايتان عن يمين
وشمال مستديرتان. والباب الجوفي يعرف بباب النطفانيين، وله دهليز عظيم. وعن
يمين الخارج منه خانقاه تعرف بالشميعانية، في وسطها صهريج ماء. ولها مطاهر يجري
فيها الماء. ويقال: إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز رضي الله
صفحة : 42
عنه. وعلى كل باب من
أبواب المسجد الأربعة دار وضوء يكون فيها نحو مائة بيت تجري فيها المياه
الكثيرة.نه. وعلى كل باب من أبواب المسجد الأربعة دار وضوء يكون فيها نحو مائة
بيت تجري فيها المياه الكثيرة.
ذكر
الأئمة بهذا المسجد
وأئمته ثلاثة عشر إماما.
أولهم الشافعية، وكان في عهد دخولي إليها إمامهم قاضي القضاة جلال الدين محمد
بن عبد الرحمن القزويني من كبار الفقهاء، وهو الخطيب بالمسجد، وسكناه بدار
الخطابة، ويخرج من باب الحديد إزاء المقصورة وهو الباب الذي كان يخرج منه
معاوية. وقد تولى جلال الدين بعد ذلك قضاء القضاة بالديار المصرية، بعد أن أدى
عنه الملك الناصر نحو مائة ألف درهم كانت دينا عليه بدمشق. وإذا سلم إمام
الشافعية من صلاته أقام للصلاة إمام مشهد علي، ثم إمام مشهد الحسين ثم إمام
مشهد الكلاسة ثم إمام مشهد أبي بكر ثم إمام مشهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين،
ثم إمام المالكية. وكان إمامهم في عهد دخولي إليها الفقيه أبو عمر بن الوليد بن
الحاج التجيبي، القرطبي الأصل، الغرناطي المولد، نزيل دمشق. وهو يتناوب الإمامة
مع أخيه رحمهما الله. ثم إمام الحنفية، وكان إمامهم في عهد دخولي إليها الفقيه
عماد الدين الحنفي المعوف بابن الرومي، وهو من كبار الصوفية. وله شياخة
الخانقاه الخاتونية؛ وله أيضا خانقاه بالشرف الأعلى. ثم إمام الحنابلة وكان ذلك
العهد الشيخ عبد الله الكفيف أحد شيوخ القراء بدمشق. ثم بعد هؤلاء خمسة أئمة
لقضاة الفوائت فلا تزال الصلاة في هذا المسجد من أول النهار إلى ثلث الليل،
وكذلك قراءة القرآن وهذا من مفاخر الجامع المبارك.
ذكر
المدرسين والمعلمين به
ولهذا المسجد حلقات
للتدريس في فنون العلم. والمحدثون يقرأون كتب الحديث على كراسي مرتفعة. وقراء
القرآن يقرأون بالأصوات الحسنة صباحا ومساء. وبه جماعة من المعلمين لكتاب الله
يستند كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد يلقن الصبيان ويقرئهم. وهم لا
يكتبون القرآن في الألواح تنزيها لكتاب الله تعالى، وإنما يقرأون القرآن
تلقينا. ومعلم الخط غير معلم القرآن، يعلمهم بكتب الأشعار وسواها، فينصرف الصبي
من التعليم إلى التكتيب، وبذلك جاد خطه لأن المعلم للخط لا يعلم غيره. ومن
المدرسين بالمسجد المذكور العالم الصالح برهان الدين بن الفركاح الشافعي، ومنهم
العالم الصالح نور الدين أبو اليسر بن الصائغ من المشتهرين بالفضل والصلاح.
ولما ولي القضاء بمصر جلال الدين القزويني وجه إلى أبي اليسر الخلعة والآمر
بقضاء دمشق، فامتنع من ذلك. ومنهم الإمام العالم شهاب الدين بن جهيل من كبار
العلماء. هرب من دمشق لما امتنع أبو اليسر من قضائها خوفا من أن يقلد القضاء
فاتصل ذلك بالملك الناصر فولى قضاء دمشق شيخ الشيوخ بالديار المصرية قطب
العارفين لسان المتكلمين علاء الدين القونوي وهو من كبار الفقهاء. ومنهم الإمام
الفاضل بدر الدين علي السخاوي رحمة الله عليهم أجمعين .
ذكر
قضاة دمشق
قد ذكرنا قاضي القضاة
الشافعي بها جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني. وأما قاضي المالكية فهو
شرف الدين، خطيب الفيوم، حسن الصورة والهيئة من كبار الرؤساء. وهو شيخ شيوخ
الصوفية، والنائب عنه في القضاء شمس الدين بن القفصي، ومجلس حكمه بالمدرسة
الصمصامية. وأما قاضي قضاة الحنفية فهو عماد الدين الحوراني. وكان شديد السطوة.
وإليه تحاكم النساء وأزواجهن. وكان الرجل إذا سمع اسم القاضي الحنفي أنصف من
نفسه قبل الوصول إليه. وأما قاضي الحنابلة فهو الإمام الصالح عز الدين بن مسلم
من خيار القضاة ينصرف على حمار له ومات بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما توجه للحجاز الشريف.
حكاية
صفحة : 43
وكان بدمشق من كبار
الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون. إلا أن في
عقله شيئا. وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم، ويعظهم على المنبر. وتكلم مرة
بأمر أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة، وجمع
القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي وقال: إن
هذا الرجل قال كذا وكذا، وعدد ما أنكر على ابن تيمية، وأحضر العقود بذلك ووضعها
بين يدي قاضي القضاة وقال قاضي القضاة لابن تيمية: ما تقول ? قال: لا إله إلا
الله فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله. فأمر الملك الناصر بسجنه فسجن أعواما. وصنف
في السجن كتابا في تفسير القرآن سماه البحر المحيط، في نحو أربعين مجلدا. ثم إن
أمه تعرضت للملك الناصر، وشكت إليه، فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل ذلك
ثانية. وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع
ويذكرهم. فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا
ونزل درجة من درج المنبر فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلم
به. فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضربا كثيرا حتى سقطت
عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز
الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، لإامر بسجنه وعزره بعد ذلك. فأنكر فقهاء المالكية
والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكيز،
وكان من خيار الأمراء وصلحائهم. فكتب إلى الملك الناصر بذلك، وكتب عقدا شرعيا
على ابن تيمية بأمور منكرة، منها أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمة إلا
طلقة واحدة ومنها المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيبا
لا يقصر الصلاة، وسوى ذلك ما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر فأمر بسجن ابن
تيمية بالقلعة، فسجن بها حتى مات في السجن.
ذكر
مدارس دمشق
اعلم أن للشافعية بدمشق
جملة من المدارس، أعظمها العادلية وبها يحكم قاضي القضاة. وتقابلها المدرسة
الظاهرية، وبها قبر الملك الظاهر، وبها جلوس نواب القاضي. ومن نوابه فخر الدين
القبطي وكان والده من كتاب القبط وأسلم.ومنهم جمال الدين بن جملة، وقد تولى
قضاء قضاة الشافعية بعد ذلك، وعزل لأمر أوجب عزله.
حكاية
كان بدمشق الشيخ الصالح
ظهير الدين العجمي. وكان سيف الدين تنكيز ملك الأمراء يتتلمذ له ويعظمه. فحضر
يوما بدار العدل عند ملك الأمراء، وحضر القضاة الأربعة. فحكى قاضي القضاة جمال
الدين بن جملة حكاية. فقال له ظهير الدين: كذبت. فأنف القاضي من ذلك وامتعض له.
فقال للأمير: كيف يكذبني بحضرتك ? فقال له الأمير: احكم عليه، وسلمه إليه وظنه
أنه يرضى بذلك فلا يناله بسوء. فأحضره القاضي بالمدرسة العادلية وضربه مائتي
سوط، وطيف به على حمار في مدينة دمشق، ومناد ينادي عليه، فمتى فرغ من ندائه
ضربه على ظهره ضربة، وهكذا العادة عندهم. فبلغ ذلك ملك الأمراء، فأنكره أشد
الإنكار، وأحضر القضاة والفقهاء، فاجمعوا على خطأ القاضي، وحكمه بغير مذهبه.
فإن التعزيز عند الشافعي لا يبلغ به الحد. وقال قاضي المالكية شرف الدين: قد
حكمت بتفسيقه فكتب إلى الملك الناصر بذلك، فعزله. وللحنفيه مدارس كثيرة.
وأكبرها مدرسة السلطان نور الدين، وبها يحكم قاضي الحنفيه. وللمالكية بدمشق
ثلاث مدارس إحداها الصمصامية، وبها سكن قاضي قضاة المالكية وقعوده للأحكام،
والمدرسة النورية عمرها السلطان نور الدين محمود بن زنكي، والمدرسة الشرابشية
عمرها شهاب الدين الشرابشي التاجر، وللحنابلة مدارس كثيرة أعظمها النجمية.
ذكر
أبواب دمشق
ولمدينة دمشق ثمانية
أبواب، منها باب الفراديس، ومنها باب الجابية ومنها الباب الصغير. وفيما بين
هذين البابين مقبرة فيها العدد الجم من الصحابة والشهداء، فمن بعدهم.
قال محمد بن جزي: لقد أحسن
بعض المتأخرين من أهل دمشق في قوله:
دمشق في أوصافها
جنة خلد راضـيه
أما ترى أبوابـهـا
قد جعلت ثمانـيه
ذكر
بعض المشاهد والمزارات بها
صفحة : 44
فمنها بالمقبرة التي
بين باب الجابية والباب الصغير قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين، وقبر
أخيها أمير المؤمنين معاوية، وقبر بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ورضي الله عنهم أجمعين، وقبر أويس القرني، وقبر كعب الأحبار رضي الله عنهما.
ووجدت في كتاب المعلم في شرح صحيح مسلم للقرطبي أن جماعة من الصحابة صحبهم أويس
القرني من المدينة إلى الشام، فتوفي في أثناء الطريق في برية لا عمارة فيها ولا
ماء فتحيروا في أمره، فنزلوا، فوجدوا حنوطا وكفنا وماء، فعجبوا من ذلك، وغسلوه
وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه. ثم ركبوا فقال بعضهم: كيف نترك قبره بغير علامة
فعادوا للموضع فلم يجدوا للقبر من أثر. قال ابن جزي: ويقال: إن أويسا قتل بصفين
مع علي عليه السلام، وهو الأصح إن شاء الله ويلي باب الجابية باب شرقي عنده
جبانة فيها قبر أبي بن كعب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها قبر
العابد الصالح أرسلان المعروف بالباز الأشهب.
حكاية
في سبب تسميته بذلك
يحكى أن الشيخ الولي أحمد
الرفاعي رضي الله عنه كان مسكته بأم عبيدة بمقربة من مدينة واسط، وكانت بين ولي
الله تعالى أبي مدين شعيب بن الحسين وبينه مؤاخاة ومراسلة. ويقال: إن كل واحد
منهما كان يسلم على صاحبه صباحا ومساء فيرد عليه الآخر. وكانت للشيخ أحمد
نخيلات عند زاويته، فلما كان في إحدى السنين جذها على عادته وترك عذقا منها
وقال هذا برسم أخي شعيب فحج الشيخ أبو مدين تلك السنة واجتمعا بالموقف الكريم
بعرفة. ومع الشيخ أحمد خديمه أرسلان، فتفاوضا الكلام. وحكى الشيخ حكاية العذق
فقال له أرسلان عن أمرك يا سيدي آتيه به. فأذن له. فذهب في حينه وأتاه به ووضعه
بين أيديهما، فأخبر أهل الزاوية أنهم رأوا عشية يوم عرفة بازا أشهب قد انقض على
النخلة فقطع ذلك العذق وذهب به في الهواء. وبغربي دمشق جبانة تعرف بقبور
الشهداء. فيها قبر أبي الدرداء وزجة أم الدرداء، وقبر فضالة بن عبيد، وقبر
وائلة بن الأسقع، وقبر سهل بن حنظلة من الذين بايعوا تحت الشجرة رضي الله عنهم
أجمعين. وبقرية تعرف بالمنيحة شرقي دمشق وعلى أربعة أميال منها قبر سعد ابن
عبادة رضي الله عنه، وعليه مسجد صغير حسن البناء، وعلى رأسه حجر مكتوب عليه هذا
قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما وبقرية
قبلي البلد وعلى فرسخ منها مشهد أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة عليهم
السلام. ويقال: إن اسمها زينب وكناها النبي صلى الله عليه وسلم أم كلثوم لشبهها
بخالتها أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مسجد كبير، وحوله
مساكن، وله أوقاف. ويسميه أهل دمشق قبر الست أم كلثوم. وقبر آخر يقال: إنه قبر
سكينة بنت الحسين بن علي عليه السلام. وبجامع النيرب من قرى دمشق في بيت بشرقيه
قبر يقال: إنه قبر أم مريم عليها السلام. وبقرية تعرف بداريا، غرب البلد وعلى
أربعة أميال منها قبر أبي مسلم الخولاني، وقبر أبي سليمان الداراني رضي الله
عنهما. ومن مشاهد دمشق الشهيرة البركة مسجد الأقدام، وهو في قبلي دمشق، على
ميلين منها، على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى الحجاز الشريف والبيت المقدس
وديار مصر وهو مسجد عظيم كثير البركة وله أوقاف كثيرة، ويعظمه أهل دمشق تعظيما
شديدا. والأقدام التي ينسب إليها هي أقدام مصورة في حجر هناك يقال: إنها أثر
قدم موسى عليه السلام. وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه كان بعض
الصالحين يرى المصطفى صلى الله عليه وسلم في النوم فيقول له ها هنا قبر أخي
موسى عليه السلام. وبمقربة من هذا المسجد موضع يعرف بالكثيب الأخضر، وبمقربة من
بيت المقدس وأريحاء موضع يعرف بالكثيب الأحمر تعظمه اليهود.
حكاية
صفحة : 45
شاهدت أيام الطاعون
الأعظم بدمشق في أواخر ربيع الثاني سنة تسع وأربعين من تعظيم أهل دمشق لهذا
المسجد ما يعجب منه، وهو أن ملك الأمراء نائب السلطان أرغون شاه أمر مناديا
ينادي بدمشق أن يصوم الناس ثلاثة أيام، ولا يطبخون بالسوق. فصام الناس ثلاثة
أيام متوالية، كان آخرها يوم الخميس. ثم اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة
والفقهاء وسائر الطبقات على اختلافها في الجامع، حتى غص بهم، وباتوا ليلة
الجمعة ما بين مصل وذاكر وداع، ثم صلوا الصبح، وخرجوا جميعا على أقدامهم،
وبأيديهم المصاحف، والأمراء حفاة.وخرج جميع أهل البلد ذكورا وإناثا، صغارا
وكبارا، وخرج اليهود بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ومعهم النساء
والولدان،وجميعهم باكون متضرعون إلى الله بكتبه وأنبيائه، وقصدوا مسجد الأقدام،
وأقاموا به في تضرعهم ودعائهم إلى قرب الزوال، وعادوا إلى البلد، وصلوا الجمعة.
وخفف الله تعالى عنهم عندما انتهى عدد الموتى إلى ألفين في اليوم الواحد - وقد
انتهى عددهم بالقاهرة ومصر إلى أربعة وعشرين ألفا باليوم الواحد - وبالباب
الشرقي من دمشق منارة بيضاء يقال إنها التي ينزل عيسى عليه السلام عندها حسبما
ورد في صحيح مسلم.
ذكر
أرباض دمشق
وتدور بدمشق من جهاتها ما
عدا الشرقية أرباض فسيحة الساحات، دواخلها أملح من داخل دمشق، لأجل الضيق الذي
في سككها. وبالجهة الشمالية منها ربض الصالحية، وهي مدينة عظيمة لها سوق لا
نظير لحسنه، وفيها مسجد جامع ومارستان، وبها مدرسة تعرف بمدرسة ابن عمر موقوفة
على من أراد أن يتعلم القرآن الكريم من الشيوخ والكهول. وتجري لهم ولمن يعلمهم
كفايتهم من المآكل والملابس وبداخل البلد أيضا مدرسة مثل هذه تعرف بمدرسة ابن
منجا وأهل الصالحية كلهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
ذكر
قاسيون ومشاهده المباركة
وقاسيون: جبل في شمال
دمشق، والصالحية في سفحه وهو شهير البركة، لأنه مصعد الأنبياء عليهم السلام.
ومن مشاهده الكريمة الغار الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام وهو غار مستطيل
ضيق، عليه مسجد كبير، وله صومعة عالية، ومن ذلك الغار رأى الكوكب والقمر والشمس
حسبما ورد في الكتاب العزيز وفي ظهر الغار مقامه الذي كان يخرج إليه. وقد رأيت
ببلاد العراق قرية تعرف ببرص بضم الباء الموحدة وآخرها صاد مهمل ، ما
بين الحلة وبغداد يقال: إن مولد إبراهيم عليه السلام كان بها وهي بمقربة من بلد
ذي الكفل عليه السلام، وبها قبره. ومن مشاهده بالغرب منه، مغارة الدم، وفوقها
بالجبل دم هابيل بن آدم عليه السلام، وقد أبقى الله منه في الحجارة أثرا محمرا
وهو الموضع الذي قتله أخوه به، واجتره إلى المغارة. ويذكر أن تلك المغارة صلى
فيها إبراهيم وموسى وعيسى وأيوب ولوط صلى الله عليهم أجمعين وعليها مسجد متقن
البناء يصعد إليه على درج وفيه بيوت ومرافق للسكنى ويفتح في كل يوم اثنين وخميس
والشمع والسرج توقد في المغارة ومنها كهف بأعلى الجبل ينسب لآدم عليه السلام
وعليه بناء وأسفل منه مغارة تعرف بمغارة الجوع يذكر أنه أوى إليها سبعون من
الأنبياء عليهم السلام، وكان عندهم رغيف فلم يزل يدور عليهم، وكل منهم يؤثر
صاحبه به، حتى ماتوا جميعا صلى الله عليهم، وعلى هذه المغارة مسجد مبني والسرج
توقد فيه ليلا ونهارا ولكل مسجد من هذه المساجد أوقاف كثيرة معينة ويذكر أن
فيما بين باب الفراديس وجامع قاسيون مدفن سبعمائة نبي، وبعضهم يقول سبعين ألفا،
وخارج المدينة المقبرة العتيقة، وهي مدفن الأنبياء والصالحين وفي طرفها مما يلي
البساتين أرض منخفضة غلب عليها الماء يقال: إنها مدفن سبعين نبيا وقد عادت
قرارا للماء ونزهت من أن يدفن فيها أحد .
ذكر
الربوة والقرى التي تواليها
صفحة : 46
وفي آخر جبل قاسيون
الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله ذات القرار والمعين، ومأوى المسيح عيسى
وأمه عليهما السلام. وهي من أجمل مناظر الدنيا ومنتزهاتها وبها القصور المشيدة
والمباني الشريفة والبساتين البديعة والمأوى المبارك، مغارة صغيرة في وسطها
كالبيت الصغير، وإزاءها بيت يقال: إنه مصلى الخضر عليه السلام يبادر الناس إلى
الصلاة فيها. وللمأوى باب حديد صغير والمسجد يدور به وله شوارع دائرة وساقية
حسنة، ينزل لها الماء من علو وينصب في شاذروان في الجدار يتصل بحوض من رخام،
ويقع فيه الماء ولا نظير له في الحسن وغرابة الشكل وبقرب ذلك مطاهر للوضوء يجري
فيها الماء وهذه الربوة المباركة هي رأس بساتين دمشق، وبها منابع مياهها،
وينقسم الماء الخارج منها على سبعة أنهار، كل نهر آخذ في جهة، ويعرف ذلك الموضع
بالمقاسم، وأكبر هذه الأنهار النهر المسمى بتورة وهو يشق تحت الربوة، وقد نحت
له مجرى في الحجر الصلد، كالغار الكبير، وربما انغمس ذو الجسارة من العوامين في
النهر من أعلى الربوة واندفع في الماء حتى يشق مجراه ويخرج من أسفل الربوة، وهي
مخاطرة عظيمة وهذه الربوة تشرف على البساتين الدائرة بالبلد، ولها من الحسن
واتساع مسرح الأبصار ما ليس لسواها. وتلك الأنهار السبعة تذهب في طرق شتى،
فتحار الأعين في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاعها وانصبابها. وجمال الربوة
وحسنها التام أعظم من أن يحيط به الوصف. ولها الأوقاف الكثيرة من المزارع
والبساتين والرباع، تقام منها وظائفها للإمام والمؤذن والصادر والوارد وبأسفل
الربوة قرية النيرب وقد تكاثرت بساتينها وتكاثفت ظلالها وتدانت أشجارها فلا
يظهر من بنائها إلا ما سما ارتفاعه ولها حمام مليح ولها جامع بديع مفروش صحنه
بفصوص الرخام، وفيه سقاية رائعة الحسن ومطهرة، فيها بيوت عدة يجري فيها الماء
وفي القبلي من هذه القرية قرية المزة وتعرف بمزة كلب نسبة إلى قبيلة كلب بن
وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وكانت إقطاعا لهم وإليها
ينسب الإمام حافظ الدنيا جمال الدين يوسف بن الزكي الكلبي المزي وكثير سواه من
العلماء وهي من أعظم قرى دمشق بها جامع كبير عجيب، وسقاية معينة وأكثر قرى دمشق
فيها الحمامات والمساجد الجامعة والأسواق وسكانها كأهل الحاضرة في مناحيهم، وفي
شرقي البلد قرية تعرف ببيت الأهبة وكانت فيها كنيسة يقال: إن آزر كان يجلب فيها
الأصنام فيكسرها الخليل عليه السلام، وهي الآن مسجد جامع بديع مزين بفصوص
الرخام الملونة المنظمة بأعجب نظام وأزين التئام.
ذكر
الأوقاف بدمشق وبعض فضائل أهلها وعوائدهم
والأوقاف بدمشق لاتحصر
أنواعها ومصارفها لكثرتها فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يعطى لمن يحج عن
الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أوزواجهن، وهن اللواتي لا
قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء
السبيل، يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل
الطرق ورصفها لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما
المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير.
حكاية
صفحة : 47
مررت يوما ببعض أزقة
دمشق فرأيت به مملوكا صغيرا قد سقطت من يده صحفة من الفخار الصيني، وهم يسمونها
الصحن، فتكسرت واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم، إجمع شقفها واحملها معك لصاحب
أوقاف الأواني فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها فدفع له ما اشترى به مثل
ذلك الصحن. وهذا من أحسن الأعمال فإن سيد الغلام لا بد له أن يضربه على كسر
الصحن، أو ينهره وهو أيضا ينكسر قلبه، ويتغير لأجل ذلك فكان هذا الوقف جبرا
للقلوب جزى الله خيرا من تسامت همته في الخير إلى مثل هذا. وأهل دمشق يتنافسون
في عمارة المساجد والزوايا والمدارس والمشاهد وهم يحسنون الظن بالمغاربة،
ويطمئنون إليهم بالأموال والأهلين والأولاد وكل من انقطع بجهة من جهات دمشق لا
بد أن يتأتى له وجه من المعاش، من إمامة مسجد، أو قراءة بمدرسة أو ملازمة مسجد،
يجيء إليه فيه رزقه أو قراءة القرآن، أوخدمة مشهد من المشاهد المباركة، أو يكون
كجملة الصوفية بالخوانق، تجري له النفقة والكسوة فمن كان بها غريبا على خير لم
يزل مصونا عن بذل وجهه محفوظا عما يزري بالمروءة ومن كان من أهل المهنة والخدمة
فله أسباب أخر، من حراسة بستان أو أمانة طاحونة أو كفالة صبيان يغدو معهم إلى
التعليم ويروح ومن أراد طلب العلم أو التفرغ للعبادة وجد الإعانة التامة على
ذلك. ومن فضائل أهل دمشق أنه لا يفطر أحد منهم في ليالي رمضان وحده ألبتة فمن
كان من الأمراء والقضاة والكبراء، فإنه يدعو أصحابه والفقراء يفطرون عنده، ومن
كان من التجار وكبار السوقة صنع مثل ذلك، ومن كان من الضعفاء والبادية فأنهم
يجتمعون كل ليلة في دار أحدهم أو في مسجد، ويأتي كل أحد بما عنده فيفطرون
جميعا، ولما وردت دمشق وقعت بيني وبين نور الدين السخاوي مدرس المالكية صحبة
فرغب مني أن أفطر عنده في ليالي رمضان فحضرت عنده أربع ليال ثم أصابتني الحمى
فغبت عنه، فبعث في طلبي، فاعتذرت بالمرض، فلم يسعني عذرا فرجعت إليه وبت عنده
فلما أردت الانصراف بالغد منعني من ذلك وقال لي: احسب داري كأنها دارك أو دار
أبيك أو أخيك، وأمر بإحضار طبيب وأن يصنع لي بداره كل ما يشتهيه الطبيب من دواء
أو غذاء، وأقمت كذلك عنده إلى يوم العيد، وحضرت المصلى وشفاني الله تعالى مما
أصابني.
وقد كان ما عندي من النفقة
نفد، فعلم بذلك فاكترى لي جمالا وأعطاني الزاد وسواه وزادني دراهم وقال لي:
تكون لما عسى أن يعتريك من أمر مهم، جزاه الله خيرا. وكان بدمشق فاضل من كتاب
الملك الناصر يسمى عماد الدين القيصراني من عاداته أنه متى سمع أن مغربيا وصل
إلى دمشق بحث عنه وأضافه وأحسن إليه، فإن عرف منه الدين والفضل أمره بملازمته.
وكان يلازمه منهم جماعة. وعلى هذه الطريقة أيضا كاتب السر الفاضل علاء الدين بن
غانم وجماعة غيره.
صفحة : 48
وكان بها فاضل من
كبرائها وهو الصاحب عز الدين القلانسي، له مآثر ومكارم وفضائل وإيثار، وهو ذو
مال عريض وذكروا أن الملك الناصر لما قدم دمشق أضافة وجميع أهل دولته ومماليكه
وخواصه ثلاثة أيام فسماه اذ ذاك بالصاحب. ومما يؤثر من فضائلهم أن أحد ملوكهم
السالفين لما نزل به الموت أوصى أن يدفن بقبلة الجامع المكرم، ويخفى قبره. وعين
أوقافا عظيمة لقراء يقرأون سبعا من القرآن الكريم في كل يوم إثر صلاة الصبح
بالجهة االشرقية من مقصورة الصحابة رضي الله عنهم حيث قبره فصارت قراءة القرآن
على قبره لا تنقطع أبدا، وبقي ذلك الرسم الجميل بعده مخلدا ومن عادة أهل دمشق
وسائر تلك البلاد أنهم يخرجون بعد صلاة العصر من يوم عرفة، فيقفون بصحون
المساجد كبيت المقدس وجامع بني أمية وسواها، ويقف بهم أئمتهم كاشفي رؤوسهم
داعين خاضعين خاشعين ملتمسين البركة، ويتوخون الساعة التي يقف فيها وفد الله
تعالى وحجاج بيته بعرفات، ولا يزالون في خضوع ودعاء وابتهال وتوسل إلى الله
تعالى بحجاج بيته إلى أن تغيب الشمس، فينفرون كما ينفر الحاج، باكين على ما
حرموه من ذلك الموقف الشريف بعرفات، داعين إلى الله تعالى أن يوصلهم إليها ولا
يخيبهم من بركة القبول فيما فعلوه، ولهم أيضا في اتباع الجنائز رتبة عجيبة وذلك
أنهم يمشون أمام الجنازة، والقراء يقرأون القرآن بالأصوات الحسنة والتلاحين
المبكية التي تكاد النفوس تطير لها رقة، وهم يصلون على الجنائز بالمسجد الجامع
قبالة المقصورة فإن كان الميت من أئمة الجامع أو مؤذنيه أو خدامه أدخلوه
بالقراءة إلى موضع الصلاة عليه، وإن كان من سواهم قطعوا القراءة عند باب المسجد
وأدخلوا الجنازة وبعضهم يجتمع له بالبلاط الغربي من الصحن بمقربة من باب
البريد، فيجلسون وأمامهم ربعات القرآن يقرأون فيها ويرفعون أصواتهم بالنداء لكل
من يصل للعزاء من كبار البلدة وأعيانها ويقولون بسم الله فلان الدين من كمال
وجمال شمس وبدر وغير ذلك، فإذا أتموا القراءة قام المؤذنون فيقولون افتكروا
واعتبروا صلاتكم على فلان الرجل الصالح العالم ويصفونه بصفات من الخير، ثم
يصلون عليه ويذهبون به إلى مدفنة. ولأهل الهند رتبة عجيبة في الجنائز أيضا
زائدة على ذلك، وهي أنهم يجتمعون بروضة الميت صبيحة الثالث من دفنه وتفرش
الروضة بالثياب الرفيعة، ويكسى القبر بالأكسية الفاخرة، وتوضع حوله الرياحين من
الورد والنسرين والياسمين وذلك النوار لا ينقطع عندهم ويأتون بأشجار الليمون
والأترج، ويجعلون فيها حبوبها إن لم تكن فيها، ويجعلون صيوانا يظلل الناس نحوه،
ويأتي القضاة والأمراء ومن يماثلهم فيقعدون، ويقابلهم القراء ويؤتى بالربعات
الكرام فيأخذ كل واحد منهم جزءا، فإذا تمت القراءة من القراء بالأصوات الحسان
يدعو القاضي ويقوم قائما ويخطب خطبة معدة لذلك، ويذكر فيها الميت ويرثيه بأبيات
شعر، ويذكر أقاربهم ويعزيهم عنه، ويذكر السلطان داعيا له، وعند ذكر السلطان
يقوم الناس ويحطون رؤوسهم إلى سمت الجهة التي بها السلطان، ثم يقعد القاضي،
ويأتون بماء الورد فيصب على الناس صبا يبدأ بالقاضي ثم من يليه كذلك إلى أن يعم
الناس أجمعين، ثم يؤتى بأواني السكر وهو الجلاب محلولا بالماء فيسقون الناس
منه، ويبدأون بالقاضي ومن يليه، ثم يؤتى بالتنبول، وهم يعظمونه ويكرمون من يأتي
لهم به، فإذا أعطى السلطان أحدا منه فهو أعظم من إعطاء الذهب والخلع. وإذا مات
الميت لم يأكل أهله التنبول إلا في ذلك اليوم، فيأخذ القاضي، أو من يقوم مقامه،
أوراقا منه فيعطيها لولي الميت فيأكلها وينصرفون حينئذ وسيأتي ذكر التنبول إن
شاء الله تعالى.
ذكر
سماعي بدمشق ومن أجازني من أهلها
صفحة : 49
سمعت بجامع بني
أمية، عمره الله بذكره جميع صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي
البخاري رضي الله عنه على الشيخ المعمر رحلة الآفاق ملحق الأصاغر بالأكابر،
شهاب الدين أحمد بن أبي طالب بن أبي النعم بن حسن بن علي بن بيان الدين، مقرئ
الصالحي، المعروف بابن الشحنة الحجازي، في أربعة عشر مجلسا، أولها يوم الثلاثاء
منتصف شهر رمضان المعظم سنة ست وعشرين وسبعمائة وآخرها يوم الاثنين الثامن
والعشرين منه، بقراءة الإمام الحافظ مؤرخ الشام علم الدين أبي محمد القاسم بن
محمد بن يوسف البرزالي، الإشبيلي الأصل، الدمشقي، في جماعة كبيرة كتب أسماءهم
محمد بن طغربل بن عبد الله بن الغزال الصيرفي، سماع الشيخ أبي العباس الحجازي
لجميع الكتاب، من الشيخ الإمام سراج الدين أبي عبد الله الحسين ابن أبي بكر
المبارك بن محمد بن يحيى بن علي بن المسيح بن عمران الربيعي البغدادي الزبيدي
الحنبلي، في أواخر شوال وأوائل ذي القعدة من سنة ثلاثين وستمائة بالجامع
المظفري بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق، وبإجازته في جميع الكتاب من الشيخين: أبي
الحسن محمد بن أحمد بن عمر بن الحسين بن الخلف القطيعي المؤرخ، وعلي بن أبي بكر
بن عبد الله بن رؤبة القلانسي العطار البغدادي ومن باب غيرة النساء ووجدهن، إلى
آخر الكتاب من أبي المنجا عبد الله بن عمر بن علي بن زيد الليثي الخزاعي
البغدادي، بسماع أربعتهم من الشيخ شديد الدين أبي الوقت عبد الأول بن عيسى بن
شعيب بن إبراهيم السجزي الهروي الصوفي، في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ببغداد
قال: أخبرنا الإمام جمال الإسلام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن
محمد بن داود بن أحمد بن معاذ بن سهل بن الحكم الداودي قراءة عليه، وأنا أسمع
ببوشنج سنة خمس وستين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن
حوبة بن يوسف بن أيمن السرخسي قراءة عليه، وأنا أسمع في صفر سنة إحدى وثمانين
وثلاثمائة، قال: أخبرنا عبد الله بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر بن ابراهيم
الفربري قراءة عليه، وأنا أسمع سنة ست عشرة وثلاثمائة بفربر، قال: أخبرنا
الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، رضي الله عنه سنة ثمان وأربعين
ومائتين بفربر، ومرة ثانية بعدها، وبعدها سنة ثلاث وخمسين.
صفحة : 50
وممن أجازني من أهل دمشق
إجازة عامة الشيخ أبو العباس الحجازي المذكور، سبق إلى ذلك وتلفظ لي به -ومنهم
الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي، ومولده في
ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وستمائة - ومنهم الشيخ الإمام الصالح عبد الرحمن بن
محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن النجدي - ومنهم إمام الأئمة جمال الدين أبو
المحاسن يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزني الكلي، حافظ الحفاظ، ومنهم
الإمام علاء الدين علي بن يوسف بن محمد بن عبد الله الشفاعي، والشيخ الإمام
الشريف محيي الدين بن يحيى بن علي العلوي، ومنهم الشيخ الإمام المحدث مجد الدين
القاسم بن عبد الله بن أبي عبد الله بن المعلى الدمشقي، ومولده سنة أربع وخمسين
وستمائة. ومنهم الشيخ الإمام العالم شهاب الدين أحمد بن ابراهيم بن فلاح بن
محمد الإسكندري. ومنهم الشيخ الإمام ولي الله تعالى شمس الدين بن عبد الله بن
تمام والشيخان الأخوان شمس الدين محمد وكمال الدين عبد الله، ابنا ابراهيم بن
عبد الله بن أبي عمر المقدسي، والشيخ العابد شمس الدين محمد بن أبي الزهراء بن
سالم الهكاري، والشيخة الصالحة أم محمد عائشة بنت محمد بن مسلم بن سلامة
الحراني، والشيخة الصالحة رحلة الدنيا زينب بنت كمال الدين أحمد بن عبد الرحيم
بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي كل هؤلاء أجازني إجازة عامة في سنة ست وعشرين
بدمشق. ولما استهل شوال من السنة المذكورة خرج الركب الحجازي إلى خارج دمشق
ونزلوا القرية المعروفة بالكسوة، فأخذت في الحركة معهم، وكان أمير الركب سيف
الدين الجوبان، من كبار الأمراء وقاضيه شرف الدين الأذرعي الحوراني، وحج في تلك
السنة مدرس المالكية صدر الدين العماري، وكان سفري مع طائفة من العرب تدعى
العجارمة، أميرهم محمد بن رافع كبير القدر في الأمراء وارتحلنا من الكسوة إلى
قرية تعرف بالصنمين عظيمة ثم ارتحلنا منها إلى بلدة زرعة وهي صغيرة من بلاد
حوران نزلنا بالقرب منها ثم ارتحلنا إلى مدينة بصرى، وهي صغيرة ومن عادة الركب
أن يقيم بها أربعا ليلحق بهم من تخلف بدمشق لقضاء مآربه - وإلى بصرى وصل رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل البعث في تجارة خديجة، وبها مبرك ناقته قد بنبي
عليه مسجد عظيم، ويجتمع أهل حوران بهبذه المدينة، ويتزود الحاج منها ثم يرحلون
إلى بركة زيرة زيرا ، ويقيمون عليها يوما، ثم يرحلون إلى اللجون، وبها الماء
الجاري ثم يرحلون إلى حصن الكرك، وهو من أعجب الحصون وأمنعها وأشهرها ويسمى
بحصن الغراب.
أضف تعليق:
0 comments: